رحيل مروان نجّار: صانع التسلية “البيتيّة”.. تحت القذائف

2023-02-16

رحيل مروان نجّار: صانع التسلية “البيتيّة”.. تحت القذائف

كان اللبنانيون غارقين في متاهات حروبهم الأهلية منذ أواسط السبعينيات، عندما بدأ مروان نجار يصنع لهم حلقات من تلك الدراما التلفزيونية الجديدة المسلّية، بعدما لم تعد تسلّيهم المواعظ الأخلاقية الريفية التي يصنعها لهم “أبو ملحم” (أديب حداد) و”أم ملحم”، ولا فكاهيات “أبو سليم الطبل” (صلاح تيزاني) وفرقته، بلهجتها الشعبية أو البلدية الطرابلسية والبيروتية.

كانت تلك الدراما التلفزيونية الجديدة المسلّية التي صنعها مروان نجار تناسب سبعينيات وثمانينيات اللبنانيين/ات الذين واللواتي يأوون مساء إلى بيوتهم، فيجالسون الشاشات التلفزيونية ليدفعوا عنهم الضجر والخوف الذي يتربّص بهم ممّن يتبادلون فوق رؤوسهم وبيوتهم وفي شوارعهم القصفَ العشوائي القاتل والمدمّر. وغالباً ما كانوا يصدّقون من يقولون لهم إنّ ما يتراشقونه من رصاص وقنابل إنّما هو لأجلهم في سبيل تحسين حياتهم واستجابة لهوايتهم وتواريخهم وطموحاتهم. وكانت حلقات الدراما التلفزيونية المسائية التي يكتبها لهم مروان نجار وسواه ترحل بهم بعيداً عمّا يدور خارج بيوتهم، وتنسيهم ما هم فيه من هوان ومذلّة.

كان اللبنانيون غارقين في متاهات حروبهم الأهلية منذ أواسط السبعينيات، عندما بدأ مروان نجار يصنع لهم حلقات من تلك الدراما التلفزيونية الجديدة المسلّية

تضاعفت شهرته التلفزيونية في الثمانينيات، فقدّم أعمالاً حقّقت نجاحاً كبيراً، منها “هيك ربّونا” و”فارس ابن أمّ فارس”.

التسعينيّات “البيضاء”

رسّخ بعدها حضوره في الكتابة التلفزيونية في التسعينيات. وذلك بمسلسلات عدّة، أبرزها “طالبين القرب” الذي أطلق نوعاً دراميّاً غير مألوف على الشاشات اللبنانية: قصص مستقلّة تُعرض كلّ منها في حلقة واحدة أو بضع حلقات. وظلّ لسنوات طويلة أحد أهمّ منتجي الدراما في لبنان. واشتُهرت هذه الأعمال بابتعادها عن تابوهات الجنس والدين والسياسة.

استمرّ في تقديم أعماله الدرامية في العقد الأول من القرن الحالي، مستقطباً المواهب الشابّة في مسلسلات “من أحلى بيوت راس بيروت” الذي يعالج مشكلات الشباب الجامعيين، و”حلم آذار” (2005) و”الطاغية” (2007).

ثمّ دخل في صمت إنتاجيّ أخيراً، إلى أن رحل بعدما سجّل اسمه كأحد مؤسّسي ومطوِّري أو محدِّثي الدراما التلفزيونية اللبنانية منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، وأحد أبرز صانعيها، أو ربّما صانعها الوحيد في التسعينيات.

الغباء والبشاعة والقذارة

مثل كلّ دراما تلفزيونية شعبية أو شعبوية، وصم مروان نجار الحكّام وأهل السياسة المتسلّطين والمتجبّرين وحدهم بـ”الغباء والبشاعة والقذارة”، وجعل “الذكاء والنقاء” في سواهم من أهل بلاد الخراب. في هذه القسمة الكثير من التبسيط والسذاجة التي تتطلّبها الأعمال الدرامية المسلّية والمريحة في السهرات البيتية العائلية.

هو الذي قال مرّة: “كيف يمكن لوطن بهذا الجمال أنْ ينجب سياسيين بهذه البشاعة؟ كيف ترضى أرضٌ زرعت في شتّى أصقاع الأرض أذكى أولادها وأنقاهم أنْ ينبت فيها ويحكمها أغباهم وأقذرهم؟”.

يائساً قانطاً رحل، مثل معظم اللبنانيين اليائسين والقانطين من بلدهم الغارق في الدراما السياسية والشعبية والطوائفية منذ تأسيسه في مطالع القرن العشرين.

هذا بعدما بلغ لبنان منذ نحو سنوات ثلاث واحدة من ذُرى هذه الدراما الدورية المتناسلة، فيما محطّاتهم التلفزيونية تتخبّط يومياً مثلهم في قعر الفراغ والمجهول، باحثة عن دور ومعنى وحضور في عالم شديد الاضطراب.

في السنوات الأخيرة غاب نجّار عن المشهد الدرامي التلفزيوني مع تغيّر ذوق المشاهدين الفنّي، وغزو المسلسلات الأجنبية المدبلجة، خصوصاً التركية. لكنّه بقي وجهاً مألوفاً عبر إطلالات تلفزيونية متكرّرة على الشاشة اللبنانية

ربّما يعلم مروان نجار أنّ من أسباب “جمال” لبنان أنّه يتخبّط وأهله وجماعاته في هذه الدراما المتجدّدة التي شخّصها مرّة مَن وضع لها “فلسفة” أسطورية قائلاً: “لبنان مثل طائر الفينيق، ما إن يحترق حتى ينبعث من رماده”. وربّما علينا أن نضيف اليوم أنّه في انبعاثه كلّ مرّة ينسى طعم الرماد الذي غرق فيه، أي بلا ذاكرة تاريخية تجنّبه الحريق التالي.

أمّا من يتشرّدون في بقاع الأرض من أهل لبنان أثناء كلّ حريق وبعده، وينجحون في حياتهم وأعمالهم هناك في بلاد أخرى، فيروحون يلتفتون بحنين إلى الوراء، إلى الأرض الخراب، ويروح، من لم يستطيعوا الرحيل أو الهروب، يتوسّلون نجدتهم لتخليصهم ممّا فعلوه، ويشعلون في أنفسهم الحنين إلى أرض الأجداد.

من هو مروان نجّار؟

ولد في حارة مار نقولا بالأشرفية في بيروت في 2 كانون الثاني 1947 لعائلة مكوّنة من أربعة أشقّاء، وتعود بأصلها إلى بشمزّين في قضاء الكورة. دخل مدرسة الإنترناشيونال كولدج في رأس بيروت، فأنهى فيها دراسته الثانوية في عام 1966، وبدأ دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت. درس النقد الأدبي على الشاعر خليل حاوي (1919 – 1982). وفي عام1972  أنهى دراساته العليا. وأثناء فترة دراسته كان يعطي دروساً خصوصية للطلاب في اللغة العربية، ثمّ عمل بالتعليم وحاضر في جامعة البلمند، وفي كليّة الإعلام في الجامعة اللبنانية.

ثمّ عمل في عام 1970 وحتى عام 1976 في صحف ومجلّات عدّة مثل “الأسبوع العربي” و”الديار”. كما عمل في قسم الأرشيف في “دار الصيّاد” قبيل اندلاع حرب السنتين.

وبدأ بكتابة المسلسلات الدرامية التلفزيونية بدعم من المخرج التلفزيوني أنطوان ريمي وزوجته هند أبي اللمع. وكانت البداية بمسلسل “ديالا” من “بطولة” الممثّلة هند أبي اللمع (1977) المأخوذ عن رواية Therese Ethienne. وتوالت بعدها أعماله في التلفزيون والمسرح والسينما. وعُرضت أبرز أعماله على شاشة “المؤسسة اللبنانية للإرسال” التي دعمتها، وأمّن الفرص للممثّلين/ات الجدد من خلفيّات أكاديمية، ومنهم كارمن لبّس، يورغو شلهوب، فيفيان أنطونيوس، بديع أبو شقرا الذين يقرّون وسواهم بفضله في إطلالتهم وإطلاقهم.

من أبرز أعماله “من أحلى بيوت راس بيروت”، “سكت الورق”، “غلطة معلّم”، “بنت الحيّ”، “الأستاذ مندور”، “حلم آذار”، “أمّ الصبي”.

أصدر كتاباً بعنوان “أمراء الحرب” خلال حرب السنتين (1975 – 1976)، وهو ما أدّى إلى طرده من المنطقة التي كان يقيم فيها، حسب روايته لبعض الصحف.

كان للمسرح أيضاً نصيب في مسيرة نجّار الذي كان يتابع أعمالاً مسرحية في برودواي ولندن. ومن أشهر مسرحيّاته في الثمانينيات والتسعينيات: “لعب الفار” (1982)، و”عريسين مدري من وين” (1986)، و”جوز الجوز” (1992)، و”كرمال المحروس” (1994).

إقرأ أيضاً: رحيل صونيا بيروتي.. الصوت الحارّ والشعر الصبيانيّ

في السنوات الأخيرة غاب نجّار عن المشهد الدرامي التلفزيوني مع تغيّر ذوق المشاهدين الفنّي، وغزو المسلسلات الأجنبية المدبلجة، خصوصاً التركية. لكنّه بقي وجهاً مألوفاً عبر إطلالات تلفزيونية متكرّرة على الشاشة اللبنانية.

رحل مروان في 14 شباط الجاري تاركاً بصمته على الأعمال الدرامية التلفزيونية اللبنانية، قبل أن تضرب لبنان الدراما المدمّرة التي يغرق فيها اليوم.

مواضيع ذات صلة

هوكستين غائب عن السّمع ومجلس الأمن معطّل والكلمة للميدان

البلد متروك لقدره. بهذه المعادلة البسيطة، القاسية بتداعياتها، يمكن اختصار حال الاتّصالات الدولية مع المسؤولين اللبنانيين حيال العدوان الإسرائيلي المتمادي. لا اتّصالات دولية جدّية قادرة…

ما حدود التّفويض الذي منحه السّيّد لبرّي؟

أكثر فأكثر تتراكم علامات الاستفهام حول موقف الحزب الحقيقي ممّا يجري في كواليس المفاوضات حول وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701 على خطّ بيروت-واشنطن-تل أبيب…

أوكرانيا تجنّد الجهاديّين الذين يحاربهم الغرب وأميركا!!

تستغلّ أوكرانيا انشغال العالم بالنزاع المتدحرج في الشرق الأوسط نحو حرب مفتوحة للتوسّع في سياسات تجنيد تتّسم بالخطورة على الأمن القومي الأوروبي، وذلك بهدف تعويض…

واشنطن وبرّي.. يحميان المطار؟

أصدر لبنان إشعاراً جوّياً (NOTAM) يتعلّق بعمليات هبوط الطائرات المدنية والعسكرية في مطار رفيق الحريري الدولي، يطلب من جميع شركات الطيران الأجنبية إعادة التقدّم بطلب…