في سنوات غياب رفيق الحريري عن المشهد السياسي اللبناني، لم يختف أثر لمسته الإيجابية في الحياة اللبنانية. فظل حاضراً رمزاً لاستقلال لبنان وإرادته الحرة وتفوقه على أصعدة كثيرة، في مقدمها الصعيد الاقتصادي. لا لأن الحريري رجل أعمال ناجح وحسب، بل لأنه أيضا رجل حوار هادئ. وهو لم يعتبر حملة السلاح أعداءه الشخصيين بقدر ما نظر إليهم بما يمثلونه من نبوءات شؤم لمستقبل لن يتمكن اللبناني فيه من التصدي لأزمات العيش قبل أن تجهز عليه.
إنقاذ لبنان وسوريا
لم يكن موقف الحريري المعارض للوصاية السورية إلا نوعا من المقاومة الحقيقية التي كان لبنان في حاجة إليها كي لا ينحرف به حملة السلاح عن مساره العربي، وإلى الدمار.
لم يكن عدوا لسوريا حين كان واضحا في دعوته إلى أن تكون العلاقة بها متوازنة، وتحفظ للبنان سيادته واستقلال قراره السياسي. وكان من شأن تلك الدعوة أن تحفظ لسوريا مكانتها كشقيقة كبرى يمكنها أن تقف مع لبنان حين يكون في حاجة إليها، كما فعلت المملكة العربية السعودية في الأوقات الحرجة.
لم يكن موقف الحريري المعارض للوصاية السورية إلا نوعا من المقاومة الحقيقية التي كان لبنان في حاجة إليها كي لا ينحرف به حملة السلاح عن مساره العربي، وإلى الدمار
ولم يكن الحريري طائفيا حين رأى أن على لبنان أن يغادر منطق السلاح وينهمك في اعمار المدن والنفوس. وهذا استحقاقه التاريخي الذي طالما عمرَت به صدور مواطنيه. بذلك يكون الحريري قد نظر إلى لبنانه من أسفل السلم، باعتباره مواطنا عاديا، لا من أعلى السلم باعتباره رئيسا للحكومة.
كان شعاره “نهضة لبنان” التي وضع نفسه وأمواله عام 1982 في خدمتها لمحو آثار الاحتلال الإسرائيلي. وهو أحد مهندسي اتفاق الطائف الذي انتهت على أساسه حرب أهلية مزقت لبنان، وكان مخططا لها أن تطحن كل ما كان يحمله اللبنانيون من انتماء إلى بلدهم وإلى المحيط العربي، في ظل هيمنة الجار العربي (سوريا) على مصائرهم.
وجاء ظهور الحريري قائدا في تلك اللحظة التاريخية الحرجة بمثابة انقاذ في اتجاهين:
– انقاذ سوريا من عماها العقائدي وجنون قيادتها.
– انقاذ لبنان من السقوط في هاوية سياسة عبثية، لا ينتج عنها سوى الخراب.
لذلك بدأ بإعمار بيروت الخارجة من الحرب وكانت عينه على دمشق التي حلم بأن تنظر بعينيه إلى مستقبلها.
فن تحقيق الممكن
كان رفيق الحريري هو كلمة السر التي جلبت الاستثمارات العربية إلى لبنان. كانت مغامرة رجل أدرك أن فن القيادة في حاجة إلى خيال لن يتسع له الواقع وسيقاومه. غير أنه عرف كيف يمسك العصا من طرفها، لا من وسطها وهو يعيد بناء بلد. كان في حاجة إلى عصيان واقعية. وعرف أن فن الممكن هو مركبه إلى صناعة المعجزة التي لن تبقيه وحيدا. لذلك أحبه اللبنانيون كما لو أنه هبة في الوقت الضائع الذي صنع منه زمنا، سيكون في ما بعد مثاليا لما ينطوي عليه من ترف. لكن العودة إليه صارت مستحيلة لأن الرجل الذي اخترعه قد أُغتيل في لحظة انتظاره الانتصار على الوصاية السورية.
إقرأ أيضاً: حين كنّا نلتقي الحريري سرّاً في قريطم
“حين قُتل رفيق الحريري قُتل لبنان”.
لكن هذا ليس صحيحا.
لبنان بالنسبة للحريري شخصية عملية وليس فكرة نظرية. فهو رأي بعينيه كيف تنبعث المباني من الخرائط. وكان في آخر لحظات حياته قد غادر مقهى هو جزء من بيروته. وهو الجزء الذي لن يفارقه اسمه أبداً. فلو لم يكن هناك رفيق الحريري لما خرجت بيروت من الخراب. ولربما نظرت الأجيال اللبنانية القادمة إليه باعتباره لغزا أو أحجية. غير أن الرجل، بالرغم من خياله، لم يكن شاعرا. كانت علاقته بالمكان هي التي صنعت عاطفته. وهي عاطفة حاول من خلالها أن يهب الآخرين – بما فيهم حملة السلاح – فكرة نظيفة عن المستقبل.
*كاتب عراقي