تعود الذكرى، على الرغم من مضيّ السنين، فنحسُّك قريباً قريباً كأنّما لم تغادر إلّا بالأمس.
في رفيق الحريري سرٌّ ليس عند أحدٍ من الناس ما يشبهه. فهو لا يحضر عند عارفيه فحسب، بل يحضر عند كلّ الناس، لبنانيّين وعرباً وزعماء عالميّين. وذكرى الحريري شخصيّة، بمعنى أنّ كلّ إنسانٍ يحسُّ شخصه على طريقته، حتى إذا حضر الوطن تساووا جميعاً لأنّه كما قال: ما في حدا أكبر من وطنه!
في رفيق الحريري سرٌّ ليس عند أحدٍ من الناس ما يشبهه. فهو لا يحضر عند عارفيه فحسب، بل يحضر عند كلّ الناس، لبنانيّين وعرباً وزعماء عالميّين
تفادي 7 أيّار
الحريري الوطنيّ هو الذي يُذكر كلّ يومٍ تقريباً. فعند كلِّ جنايةٍ يرتكبها أحد أكابر المجرمين بحقّ الوطن، نقول: ماذا كان الحريري ليفعل لو واجه هذه المشكلة؟ ربّما ما كان الحريري صانعاً للعجائب، لكنّنا جميعاً كنّا نحسُّ أنّه صانع عجائب ومعجزات. الطريف أنّه أوّل مرّة سمعت فيها كبيراً يردّد العبارة: “ماذا كان الحريري ليفعل؟”، كانت عندما احتلّ حزب الله بيروت بالسلاح في 7 أيّار عام 2008، ولمّا يمضِ على غياب الحريري سنواتٍ ثلاثاً. وسكت الحاضرون إذ قال اثنان منهم: “ما كان الغزو ليحدث لو كان الحريري حيّاً”.
هل كان يتمتّع حقّاً بهذه القدرات السحرية؟
هي قدراتٌ على المفاوضة وعلى الإقناع ما عرفناها إلّا لقلّةٍ قليلةٍ في جيلنا. ماذا كان حزب الله يريد عندما احتلّ بيروت؟ كان يريد التغطية على الجريمة حتى لا تصبح دوليّة، وكان يريد إزالة استقلالية السلطة التنفيذية والتحكّم بها. كلّ شيء كان يهون على الحريري إلّا إهانة بيروت التي ما عانت عاصمةٌ ولا مدينةٌ ما عانته… حتى ستالينغراد!
لذلك، ولوقاية بيروت من غزوٍ قد لا تستطيع احتماله، ربّما كان الحريري ليتنازل من أجل تأجيل الواقعة، وتنازله يكون بالاعتكاف لأسبوعٍ على الأكثر ثمّ النهوض من جديد ليطوف في الليالي بشوارع بيروت، كما كان يفعل في شتاء عامَيْ 1982 و1983، فيكتسب القوّة التي تدفعه، ولو اقتضى الأمر، لبلوغ أقاصي العالم من أجل بيروت ومن أجل لبنان.
لا تستعصي عليه مشكلة إذا تعلّقت بشأنٍ بيروتيّ أو وطنيّ، بل بيروتيّ بالذات.
أذكر أنّ أنصاره خسروا بلدية صيدا في الانتخابات، فاستولى عليه الغمّ في حين انصرف مستشاروه إلى النعي على ناكري الجميل(!). لكنّه ما لبث أن أفاق كأنّما كان في غفلة، وقال بصوتٍ هادئ: “دعوا النواح والاتّهامات وتعالوا نهتمّ بشأن بيروت والتوافق على بلديّتها لإرضاء الجميع حتى لا يحصل فيها ما حصل في صيدا”.
الحريري الوطنيّ هو الذي يُذكر كلّ يومٍ تقريباً. فعند كلِّ جنايةٍ يرتكبها أحد أكابر المجرمين بحقّ الوطن، نقول: ماذا كان الحريري ليفعل لو واجه هذه المشكلة؟
كبر به وطنه
أمّا علاقته بالناس، وبخاصّةٍ الفقراء، فقد كانت من نوعٍ خاصّ. أذكر أنّ إحدى المتردّدات غادرت الطابور وقالت إنّها تريد رؤية رفيق الحريري لأنّه قيل لها إنّه مريض. وحاول الجميع إقناعها بالعطاء والذهاب، فرفضت حتى اصطحبها أحد المساعدين إلى الطابق الخامس فرأت الحريري سليماً معافىً فسلّمت عليه ودعت له وهو يبتسم لها ويسأل عن أحوالها، ثمّ مضت تحمد الله على سلامته ونسيت الطابور والصدقات على الرغم من ترجّي الجميع لها بالعودة.
قال لي أحد الأصدقاء: أنتم السُّنّة لا تذكرون رفيق الحريري إلا عند المشكلات، فلماذا لا تذكرونه في الأفراح؟”. وسارعتُ إلى إنكار ذلك، ثمّ استدركت: نعم نذكره لأنّه كان حلّال العُقَد لنا ولغيرنا من المواطنين. لكنّ الريفيين، سُنّةً وغيرهم، يتذكّرون دائماً المِنَح الدراسية السخيّة التي صبَّها على أولادهم، فعلّم وأنقذ وقدّم في عشر سنين ما لم يعرفوه منذ مئة عام وأكثر.
كنت ذاهباً إلى قريتي بالمتن فلمّا وصلنا إلى بعبدات تذكّرت امرأتي أنّها نسيت الدواء، فنزٍلت لشرائه من الصيدلية وطال انتظاري فذهبت وراءها ففهمت منها أنّه دواء يحتاج إلى وصفة طبيب. وهمّت بالعودة خائبةً، لكنّ الصيدلي الذي عرفني هبّ فجأةً وأعطانا الدواء بدون وصفة. ومن دون أن نسأله قال: “عندي ولدان علّمهما رفيق الحريري، واحد طبيب وواحد صيدليّ، وسأتحمّل وزر المخالفة من أجل معروفه”.
لكلّ لبنانيٍّ في زمن الحريري قصّةٌ معه عن قُربٍ أو عن بُعد. ثمّ عرفتُ قصصاً له وعنه في السعودية والكويت والبحرين والإمارات ومصر وألمانيا. ولا أدري أين وأين. صحيح أنّ الإنسان لا يكون أكبر من وطنه. لكنّ بعض الناس يكبر وطنهم بهم، ورفيق الحريري أحد هؤلاء.
رسالة
رسالتنا إليك أيّها الرفيق الرفيق أنّك حاضرٌ مهما غبت، وأنّك قريبٌ مهما حاولوا إبعادك.
ورسالتنا إليك أنّ مقياس السياسي ليس هو النجاح كما كنت تعتقد، فالواقع وفي حالتك بالذات أنّ المقياس هو في الرؤية الوطنية، وفي حبّ الناس وتصديقهم ولو لم يروك ولم يعرفوك. وهذا مع أنّك كنت ناجحاً في أعمالك الخاصّة وفي سياساتك في الدولة.
ورسالتنا إليك أنّ غيابك ترك فراغاً شاسعاً في حياة مدننا وفي الحياة الوطنية، ولا نعرف حتى اليوم كيف نملؤه.
إقرأ أيضاً: بقي بائع الفلافل… وذهب رفيق الحريري
ورسالتنا إليك أنّهم منذ احتلّوا بيروت وجاؤوا إلى الحكومة ثمّ إلى الرئاسة بميشال عون وصهره، ما يزالون دائبين على تهديم ما عمّرته بدءاً بوسط بيروت وليس انتهاءً بالكهرباء والنقد اللبناني وعلاقات لبنان العربية والدولية. ونحن محتاجون مع سائر اللبنانيين إلى قوّتك وقدراتك وحِرَفيّتك، وقبل ذلك وبعده إلى رؤيتك. ثمّ من أين لنا ذلك السلم والدأب الذي لا ينتهي في شخصك وأخلاقك وسيرتك وعملك للغد؟!
دمت خالداً في العقول والنفوس والقلوب، ويا ربّ اشمله برحمتك الواسعة التي يستحقّها، فقد مات ميتةً لا يستحقّها!