لم تعُد الظروف ملائمة حالياً لزيارة وزير خارجية الولايات المتّحدة أنتوني بلينكن لبكّين التي كانت ستكون أوّل زيارة لوزير خارجية أميركي للصين منذ عام 2018.
تفتتح هذه الجملة فصلاً جديداً من فصول التصعيد المتواصل بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، بسبب قمر تجسّسي صينيّ حلّق أيّاماً في الأجواء الأميركية، فرفع من حدّة الجدال بين الجمهوريّين والديمقراطيّين في الولايات المتحدة وأشعل التوتّرات بين البلدين. لكن على مدى يوم كامل تتبّعت أنظار العالم مسار “منطاد” أقرّت واشنطن أنّه “محدود القيمة الاستخبارية”، ووصفته بكين بأنّه “أداة مدنية للبحث العلمي دخل المجال الجوّي للولايات المتحدة عن غير قصد”.
توقيت مثير للقلق
على الرغم من انتهاء المسألة بإسقاط طائرة حربية أميركية للمنطاد في أميركا الشمالية. أجمع المحلّلون على أهميّة توقيت إعلان وجود البالون قبل زيارة بلينكن (المؤجّلة) للصين وسط تصاعد التوتّرات بين الولايات المتحدة والصين منذ آب الماضي، مع زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي آنذاك نانسي بيلوسي تايوان، والتي أسفرت عن إعلان الصين القيام بمناورات عسكرية. ويشير المحللون إلى توقيت الحادثة بُعيد إعلان أميركا والفليبين الخميس الماضي عن خطط لتوسيع الوجود العسكري الأميركي في الدولة الواقعة في جنوب شرق آسيا، مع السماح للولايات المتحدة بالوجود في أربع قواعد عسكرية أخرى، في إطار سعيهما إلى ردع الإجراءات الصينية المتزايدة تجاه تايوان وفي بحر الصين الجنوبي المتنازَع عليه.
وفقاً للمحلّلين السياسيين في واشنطن، ليست هذه المرّة الأولى التي يرصد فيها البنتاغون خرقاً مماثلاً. فمن المعروف أنّ أقمار المراقبة الصينية التجسّسية تحوم دوماً فوق الولايات المتحدة
رأى المحلّلون أنّه كان من المفاجىء إعلان الولايات المتحدة الأميركية قبل يومين فقط من زيارة مقرَّرة لوزير خارجيّتها للصين، عن وجود قمر تجسّس صيني “لا قيمة استخبارية إضافية له” حلّق في سماء البلاد منذ أيام. واعتبرت وسائل الإعلام أنّ الإعلان يمثّل تمهيداً لطبيعة محادثات بلينكن مع الرئيس الصيني شي جينبينغ في بكين، والتي تتابع محادثات الرئيس جو بايدن مع الرئيس الصيني العام الماضي، وتعهّد فيها بايدن بأنّ “لا حرب باردة جديدة” مع الصين، وقال إنّه لا يعتقد أنّ الصين ستغزو تايوان، لكن بالنسبة إلى الصين يبدو أنّه لن يفي بتعهّداته.
وفقاً للمحلّلين السياسيين في واشنطن، ليست هذه المرّة الأولى التي يرصد فيها البنتاغون خرقاً مماثلاً. فمن المعروف أنّ أقمار المراقبة الصينية التجسّسية تحوم دوماً فوق الولايات المتحدة. غير أنّ الجمهوريين أصرّوا هذه المرّة على التحدّث عن فشل وزارة الدفاع في التصرّف بشكل عاجل للردّ على هذا التوغّل في المجال الجوّي. وقال سيناتور ميسيسيبي الجمهوري روجر ويكر، والعضو في لجنة القوّات المسلّحة بمجلس الشيوخ: “لا ينبغي تجاهل أيّ توغّل، ويجب التعامل معه بشكل مناسب”. وحسب السيناتور الأميركي ماركو روبيو، كبير الجمهوريين في لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ، “هناك أمثلة كثيرة على النشاط التجسّسي الصيني على مدى السنوات العديدة الماضية. لكنّ مستوى التجسّس على بلدنا الموجّه من بكين نما نموّاً كبيراً وبشكل أكثر حدّة ووقاحة على مدى السنوات الخمس الماضية. وهذا البالون بالتحديد يثير القلق”. واعتبر رئيس مجلس النواب الجمهوري كيفن مكارثي، الذي حذّر الصين هذا الأسبوع بالفعل من أنّها لا تستطيع منعه من زيارة تايوان إذا أراد، أنّ “تجاهل الصين الوقح لسيادة الولايات المتحدة يزعزع الاستقرار ويجب معالجته ولا يمكن للرئيس بايدن أن يصمت عنه”.
من جهته، رأى المحلّل السياسي لشبكة “سي إن إن” ومراسلها في البيت الأبيض ستيفن كولينسون، أنّ هذا البالون يقدّم لمحة مثالية عن أحد أكثر العوامل المدمّرة التي تدفع الولايات المتحدة والصين نحو المواجهة. وقال إنّ سياسات العلاقة الجيوسياسية الأكثر أهميّة في العالم متقاربة جدّاً في كلا البلدين بحيث يمكن لأيّ حادث أن يؤدّي إلى جولة جديدة من تبادل الاتّهامات.
وكتب كولينسون: “من المشروع أن نتساءل لماذا أرسلت الصين بالون تجسّس فوق الولايات المتحدة قبل زيارة بلينكن الحرجة، فقد كان يبدو أنّ كلا الجانبين حريص على وقف الانهيار الخطير في العلاقات بينهما. ومن غير المرجّح أن يكون هذا استفزازاً متعمّداً، إذ يوجد سبب للاعتقاد بأنّ الصين تريد أيضاً خفض حرارة التوتّرات. ربّما فقدت بكين السيطرة على منطادها. ومع ذلك، إذا تمّ تفجير منطاد أميركي فوق البرّ الرئيسي الصيني في الوقت الحالي، فمن المحتمل أن تستمدّ حكومة الرئيس شي جينبينغ أقصى قيمة دعائية من الحادث”.
وأضاف: “دبلوماسيّاً ولأسباب سياسية داخلية، كان من المستحيل المضيّ قدماً في زيارة بلينكن للصين. إذ لو ذهب بلينكن إلى بكين، لسيطرت حادثة البالون على حساب القضايا الرئيسية الأخرى في العلاقة، ومنها تايوان والاشتباكات الاقتصادية. لكن من الناحية السياسية، في ظلّ غضب الجمهوريين بشأن الحادث، فإنّ المضيّ قدماً في الزيارة يجعل إدارة الرئيس بايدن تبدو وكأنّها لم تكن صارمة بما فيه الكفاية مع الصين. تلعب السياسة الداخلية في كلّ من واشنطن وبكين دوراً مهمّاً في تحديد ما يوصف غالباً بأنّه العلاقة الدبلوماسية الأكثر أهميّة في العالم”.
وقال كولينسون: “لقد أحبطت هذه الحادثة محاولة إدارة بايدن التخلّص من التوتّر في العلاقات الأميركية الصينية. وهي حادثة تغذّي الإحساس في واشنطن وبكين بأنّ أقوى قوّة عظمى في العالم وخصمها الصاعد يتّجهان نحو مواجهة حتمية. وقد يتّضح أنّ هذه الحادثة غير ضارّة، لكنّها دراما صغيرة أخرى لم تدمّر رحلة بلينكن فحسب، بل ستزيد من تأجيج النيران السياسية التي تثير الصقور في واشنطن وبكين الذين يرون ما يريدون رؤيته، أي باتت المسيرة نحو الصراع حتمية، وأصبح هذا السيناريو الخطير أكثر احتمالاً”.
الصينيون يجيدون تحديد ماهيّة التكنولوجيا ويسعون إلى تكرارها. وهم يقولون للأميركيين: “أيّ شيء يمكنكم القيام به يمكننا القيام به بشكل أفضل”
ليست المرّة الأولى
كان “قمر التجسّس”، كما توضح تصريحات مسؤولين في البنتاغون، يحلّق حرّاً وواضحاً في سماء الولايات المتحدة لعدّة أيام قبل الكشف علناً عن وجوده. فقد أوضحت شبكة “سي إن إن”، نقلاً عن المتحدّث باسم وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون الجنرال باتريك رايدر، أنّ “قمر التجسّس” هو عبارة عن بالون للمراقبة بحجم ثلاث حافلات كان البنتاغون يتعقّبه منذ عدّة أيام وهو يشقّ طريقه فوق شمال الولايات المتحدة.
أكّد رايدر أنّ هذه ليست المرّة الأولى التي ترسل فيها الصين بالونات مراقبة إلى الولايات المتحدة، فقد لوحظت نشاطات مماثلة على مدى السنوات العديدة الماضية، لكنّ هذا البالون يبدو أنّه بقي فوق البلاد لفترة أطول، وقال إنّ الحكومة الأميركية أجرت اتصالات مع الحكومة الصينية من خلال السفارة الصينية في واشنطن والبعثة الدبلوماسية الأميركية في الصين وأثارت خطورة القضية.
من جهتها، نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مسؤول دفاعي كبير أنّ البالون سافر من الصين إلى جزر ألوشيان في ألاسكا، وعبَر شمال غرب كندا خلال الأيام القليلة الماضية قبل أن يصل إلى مكان ما فوق مونتانا، حيث كان يحوم، وأنّ طائرات مقاتلة من طراز F-22 اقتربت من المنطاد فوق مونتانا يوم الأربعاء الماضي، وهو ما أدّى إلى توقّف الرحلات مؤقّتاً في مطار بيلينز.
لم يكن من الواضح ما الذي كانت تبحث عنه الصين في مونتانا، لكنّ الولاية هي موطنٌ قواعد جوّية حسّاسة وصواريخ نووية موجودة في ملاجئ تحت الأرض في قاعدة مالمستروم الجوّية، وهي واحدة من ثلاث قواعد للقوّات الجوّية الأميركية التي تشغّل وتحافظ على صواريخ باليستية عابرة للقارّات. لكنّ المسؤول في البنتاغون أكّد أنّ قيمة البالون “محدودة” من منظور جمع المعلومات الاستخبارية ومقارنةً بما يمكن أن تلتقطه الصين من صور عبر الأقمار الصناعية الواقعة في مدار أرضيّ منخفض. وفي رأيه أنّ أهمّ ما يمكن أن تفعله الصين بهذا البالون هو تتبّع إشارات الاستخبارات وشبكات الهاتف المحمول والاتصالات اللاسلكية، بالإضافة إلى شبكات القيادة والسيطرة الحكومية.
إطلاق البالون هدفه إحراج الولايات المتحدة، إضافة إلى جمع بعض المعلومات الاستخبارية، إذ من الصعب التفكير في أنّ الصينيين مقتنعون بأنّه لن يتمّ اكتشاف البالون
بالونات بدل أقمار صناعيّة؟
على الرغم من أنّ مناطيد المراقبة ليست متطوّرة أو متعدّدة الاستخدامات مثل أقمار التجسّس الصناعية، تتميّز هذه المناطيد ببعض المزايا مقارنة بما خلفها من آلات متقدّمة، الأمر الذي يجعلها أكثر استخداماً اليوم. وأوضح خبراء عسكريون أنّ البالونات العالية الارتفاع تتميّز بالقدرة على مسح مساحات واسعة من الأراضي من مكان أقرب، وعلى قضاء المزيد من الوقت فوق منطقة مستهدَفة بعكس الأقمار الصناعية، وفقاً لتقرير صدر عام 2009 عن كليّة القيادة والأركان الجوّية التابعة للقوات الجوّية الأميركية. وعلى عكس الأقمار الصناعية التي تتطلّب قاذفات فضائية تكلّف مئات الملايين من الدولارات، يمكن إطلاق المناطيد بثمن بخس وبشكل مباشر. ويمكن توجيهها إلى منطقة مستهدَفة عن طريق تغيير الارتفاعات لالتقاط تيارات رياح مختلفة، ويمكنها مسح المزيد من المناطق من ارتفاع منخفض وقضاء المزيد من الوقت فوق منطقة معيّنة لأنّها تتحرّك ببطء أكثر من الأقمار الصناعية، وفقاً لدراسة أُجريت عام 2005 بطلب من معهد أبحاث القوة الجوية التابع لسلاح الجو الأميركي.
وقال جون بلاكسلاند، أستاذ دراسات الأمن الدولي والاستخبارات في الجامعة الوطنية الأسترالية، لصحيفة الغارديان البريطانية، إنّه “على مدى العقود القليلة الماضية كانت الأقمار الصناعية ضرورية. لكن الآن بعد اختراع الليزر أو الأسلحة الحركية لاستهداف الأقمار الصناعية، بدأ الاهتمام مجدّداً بالبالونات. فهي لا تقدّم نفس المستوى من المراقبة المستمرّة مثل الأقمار الصناعية، لكنّها أسهل في الاسترداد، وأرخص بكثير في الإطلاق. لإرسال قمر صناعي إلى الفضاء، أنت بحاجة إلى قاذفة فضائية، تكلّف مئات الملايين من الدولارات”.
أضاف بلاكسلاند أنّ الفرنسيين هم أوّل مستخدمين مسجّلين لبالونات الاستطلاع، بدءاً من معركة فلوروس ضدّ القوات النمساوية والهولندية في عام 1794، في أثناء الحروب الثورية الفرنسية. واستخدمت في ستّينات القرن التاسع عشر، أثناء الحرب الأهلية الأميركية عندما كان رجال الاتحاد يحلّقون في مناطيد الهواء الساخن المجهّزة بمناظير محاولين جمع معلومات عن النشاط الكونفدرالي ويرسلون إشارات عبر رمز مورس أو قطعة ورق مربوطة بحجر. ومثل هذه البالونات استخدمها كل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على نطاق واسع خلال الحرب الباردة وكانت وسيلة منخفضة التكلفة لجمع المعلومات الاستخبارية.
إقرأ أيضاً: كيف عرف سفير أميركا.. أنّ بوتين سيجتاج أوكرانيا؟
الصين تقصّدت إرسال المنطاد
لفت بلاكسلاند إلى أنّ الصينيين تقصّدوا أن يكشف الأميركيون جود المنطاد لسببين:
– الأوّل أنّ إطلاق البالون هدفه إحراج الولايات المتحدة، إضافة إلى جمع بعض المعلومات الاستخبارية، إذ من الصعب التفكير في أنّ الصينيين مقتنعون بأنّه لن يتمّ اكتشاف البالون. فالمجال الجوّي الأميركي يخضع للتدقيق الشديد من قبل سلطات الطيران المدني الأميركية والقوات الجوّية الأميركية وقوّة الفضاء الأميركية وشبكات الطقس وغيرها.
– الثاني هو جعل الولايات المتحدة تدرك حقيقة أنّ الصين تطور سرّاً تقنيّتها. فوكالات الأمن الصينية بارعة في التقليد. الصينيون يجيدون تحديد ماهيّة التكنولوجيا ويسعون إلى تكرارها. وهم يقولون للأميركيين: “أيّ شيء يمكنكم القيام به يمكننا القيام به بشكل أفضل”.
*عن “سي إن إن”، نيويورك تايمز والغارديان.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا