بعد مرور 100 يوم من عمر الحكومة العراقية، يحاول رئيسها محمد شياع السوداني التوفيق بين ما يحقّقه من إنجازات على صعيد العلاقات الخارجية، وبين التحدّيات الداخلية على مختلف الصعد، خاصة ما يتعلّق منها بالالتزام ببرنامجه الحكومي والوعود التي أطلقها مع بداية تسلّمه رئاسة السلطة التنفيذية بتحقيق نهوض اقتصادي ومعيشي وتعزيز مؤسّسات الدولة ومرافقها الصناعية والزراعية والأمنيّة والعسكرية ومحاربة الفساد، إضافة إلى وضع حلول للعقد الدستورية والسياسية والتوفيق بين فكرة الدولة والعقليّات الحزبية التي تحاول ابتلاعها وتحويلها إلى مؤسّسات ريعية مهمّتها تكريس مبدأ المحاصصة.
نجح السوداني في توظيف التراكم الذي ورثه من أسلافه، خاصة رئيسَيْ الوزراء حيدر العبادي ومصطفى الكاظمي، لتعزيز الانفتاح العراقي على العمق العربي، وترميم موقع بلاده على المستويَين الإقليمي والدولي، وتأكيد دوره الوسطي، والبحث عن مصالح العراق الوطنية والقومية والاستراتيجية، وتثبيت مبدأ الإيجابية في موقف الحياد الذي اعتمده في تعاطيه مع الصراعات الإقليمية والدولية وانعكاساتها على العراق واستقراره.
في المقابل، يبدو أنّ الأمور على المستوى الداخلي ولعبة التوازنات بين القوى السياسية الممثِّلة للمكوّنات والجماعات السياسية القومية والإثنية والمذهبية وحتى الفصائلية، لا تسير بالسهولة والانسيابية كما هي الحال في العلاقات الخارجية.
تبدو كبيرةً طموحاتُ السوداني إلى استيعاب جميع الأطراف وتدوير الزوايا، وتتّسم خطواته بالعقلانية والاعتراف بصعوبة وتعقيد الوضع
العلاقة بـ”الإطار التنسيقيّ”
استطاعت حكومة السوداني تجاوز أزمة وجودية كادت تطيح بها نتيجة تنامي الصراعات والخلافات بين قوى “الإطار التنسيقي” الشيعي الذي يُعتبر الرافعة الأساس للحكومة من جهة، وبين قوى وفصائل “الإطار” وبين الأحزاب الممثّلة للمكوّنين الكردي والسنّيّ من جهة أخرى، وهي القوى التي يشكّل مجموعها تحالف “إدارة الدولة” برئاسة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي.
إنّ الإمساك بالعصا من الوسط، الذي مارسه السوداني لاستعادة التوازن والدفاع عن موقعه ودوره وقراره في إدارة الحكومة والسلطة التنفيذية والقوات المسلّحة، والآليّة التي اعتمدها في التعامل مع الصراع داخل “الإطار التنسيقي”، على خلفيّة الاتّهامات المتبادلة بين أقطابه بمحاولة الاستئثار بالمواقع القيادية في الوزارات والإدارات العامّة، سمحا للسوداني بأن يضع هذه الفصائل والأحزاب أمام خيار الاستمرار في المعادلة السياسية والحكومية أو خيار خسارة كلّ المكتسبات. وهذا من باب أنّ انهيار الحكومة سيكون النهاية والضربة القاضية لإمكانية عودة هذه القوى إلى السلطة، وأنّ الانهيار لن يقف عند هذه الحدود، بل سيحوّل العراق إلى ساحة صراع داخلي لن يكون فيه منتصر وسيضع العراق على سكّة حرب أهليّة.
ربّما تكون الخطوة أو الإنجاز الأبرز للسوداني، على الرغم من تواضعه، أنّه يشكّل نقلة نوعيّة في:
– التوصّل إلى تفاهم مع قادة “الإطار التنسيقي” وزعامات الفصائل المسلّحة من جميع المكوّنات لإنهاء مظاهر السلاح المتفلّت.
– التزام الفصائل بمنع أجنحتها المسلّحة من التدخّل في القرار السياسي وقرارات الحكومة، على الأقلّ بشكل فاضح، خاصة أنّ هذه القوات تُعتبر جزءاً من مؤسسة الحشد الشعبي الخاضعة لإمرة وقيادة رئيس الوزراء بصفته القائد الأعلى للقوات المسلّحة.
– التعامل مع معضلة الفساد ومساعي استرداد أموال الدولة المنهوبة. ويبدو أنّ السوداني بدأ اعتماد سياسة الابتعاد عن الضجيج الإعلامي الذي رافق القرارات والاعتقالات الأولى لكبار المفسدين. وتكشف المؤشّرات أنّ تفعيل عمل المؤسّسات الرقابية ومؤسّسة النزاهة والاعتقالات والقضايا التي تلاحقها وتطال مسؤولين ومديرين عامّين في إدارات الدولة، تجري بسلاسة من دون ردّات فعل من القوى والأحزاب، وبعيداً عن اتّهامه بالانتقامية والكيدية والانتقائية، وهو ما يعزّز الاعتقاد بأنّها جزء من مخرجات الاجتماع الذي جرى بين السوداني وقادة “الإطار التنسيقي” أوّلاً، وبينه وبين قيادات تحالف “إدارة الدولة” ثانياً.
العلاقة بإقليم كردستان
أمّا الأزمة التي فجّرها قرار المحكمة الاتحادية بعدم قانونية تحويل الأموال من الحكومة الاتحادية إلى حكومة إقليم كردستان، الذي وُضع في خانة الضغط على الإقليم لتسوية أزمة عائدات النفط الذي يصدّره، إضافة إلى إلغاء هذه المحكمة قانون النفط والغاز في المرحلة الانتقالية بين حكومته وحكومة سلفه الكاظمي، فقد استطاع السوداني امتصاص تداعياتها التي كان من الممكن أن تفجّر العلاقة بين بغداد والإقليم، وتحوّلت إلى دافع لدى الطرفين للتسريع في التوصّل إلى تفاهمات في المسائل العالقة بينهما. وقد ساعد في منع التفجّر انشغال جناحَيْ السلطة والإدارة في الإقليم، أي الحزب الديمقراطي بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني بزعامة بافل طالباني، بالصراع على تقاسم السلطة وقانون الانتخابات البرلمانية وتوزيع الوزارات في حكومة الإقليم، وتراجع اتّهام قوى “الإطار التنسيقي” داخل تحالف “إدارة الدولة” بالسعي إلى التملّص من التفاهمات الثنائية التي أنتجت الحكومة في تشرين الأول من عام 2022، على غرار ما كان يحصل في الاتفاقات السابقة بين بغداد وأربيل.
بعد مرور 100 يوم من عمر الحكومة العراقية، يحاول رئيسها محمد شياع السوداني التوفيق بين ما يحقّقه من إنجازات على صعيد العلاقات الخارجية، وبين التحدّيات الداخلية على مختلف الصعد
التعديلات الدستوريّة
كشفت الأزمة الحكومية التي نشأت بعد الانتخابات المبكرة في 10/10/2021، والتعطيل الطويل الذي استمرّ سنة كاملة، عن العيوب التي تعانيها الموادّ الدستورية، خاصة أنّ الخطأ الفادح الذي كرّسه الدستور كان مبدأ التعامل مع العراقيين من منطلق المكوّنات العرقية والقومية والإثنية، وليس على أساس المواطنة، بالإضافة إلى معضلة تمثيل هذه المكوّنات وتشكيل الأقاليم وحدود الصلاحيّات وحقّ الاعتراض التي تعرقل وتعيق بناء دولة وطنية حقيقية.
ونتيجة لهذه الأزمة الدستورية، جرى في الحكومات السابقة، ومع حكومة السوداني، نقاش جدّي بين القوى السياسية والأوساط القانونية في ضرورة إجراء تعديلات حقيقية في الدستور، حتى لو أدّت إلى صياغته على أسس تختلف عن الأسس والشروط التي حكمت الصياغة الأولى. إلا أنّ المضيّ في هذا المسار أمامه الكثير من العوائق والعراقيل، في مقدَّمها تمسّك كلّ مكوّن بالمكاسب التي حصل عليها في الدستور الحالي، خاصة القوى الكردية التي تُعتبر المؤثّر الأكبر في الصيغة الحاليّة للدستور، وترفض إجراء أيّ تعديل قد يؤدّي إلى خسارتها المكاسب التي حصلت عليها.
ويمكن تلخيص أزمة قبول القوى السياسية بإجراء تعديلات جذرية على الدستور بأنّها تنبع من “أزمة ثقة” بين هذه المكوّنات تقوم على معادلة من عدّة أبعاد:
– غياب ثقة المكوّن الشيعي بالمكوّنين الكردي والسنّي.
– غياب الثقة لدى المكوّنين الكردي والسنّي بالمكوّن الشيعي.
– خوف الأكراد من تعديل المادّة التي تشترط ثلثَي أعضاء البرلمان لانتخاب رئيس الجمهورية، والمادّة 140 المتعلّقة بالتعداد السكاني ومصير المناطق المختلَف عليها بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم. في حين يشكّل حقّ المحافظات بالتصويت العقدة الأبرز، لأنّ الدستور يعطي هذه المحافظات حقّ الاعتراض، وأيّ اعتراض من ثلاث محافظات يُسقط أيّ تعديل أو قانون.
على العكس ممّا توحي به حكومة السوداني التي شكّلت لجنة وزارية لبحث واقتراح التعديلات الدستورية المطلوبة، من المتوقّع أن تضغط القوى السياسية باتجاه الاكتفاء بإجراء التعديلات المرتبطة بالموادّ التنفيذية، خاصّة الموادّ المتعلّقة بتحديد الكتلة الكبرى وآليّات اختيارها وتشكيلها، للخروج من التفسيرات المتعدّدة والمتناقضة التي تقدّمها المحكمة الاتحادية مع كلّ انتخابات برلمانية.
في مقابل الاختلاف على إجراء تعديلات جذرية في الدستور، يبدو أنّ غالبية القوى السياسية ومن جميع المكوّنات تتّفق على ضرورة تعديل قانون الانتخابات الذي أُجريت على أساسه الانتخابات الأخيرة التي أنتجت الأزمة الوزارية والصراع المفتوح بين “الإطار التنسيقي” والتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر على اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة ورئاسة السلطة التنفيذية. وقد بدأت هذه القوى والأحزاب بتشكيل لوبيات سياسية وبرلمانية للدفع باتجاه العودة إلى القانون الأسبق القائم على النسبية والدوائر الموسّعة، وليس على الدوائر الفردية والضيّقة، أو القانون المعروف باسم “سانت ليغو”. أمّا التعديل الآخر والأهمّ فقد يطال آليّات تشكيل المفوضية العليا للانتخابات واختيار وانتخاب أعضائها.
تسير هذه النقاشات والإجراءات بكثير من الحذر، لأنّ عين القائمين عليها وعين رئيس الوزراء السوداني تتوجّهان نحو الحنانة مقرّ إقامة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الذي منذ إعلان استقالة كتلته البرلمانية وعزوفه عن العمل السياسي، يقوم بمراقبة أداء الحكومة والقوى السياسية، لاختيار الوقت المناسب لتحريك الشارع والوقوف بوجه القوى التي تمسك بالسلطة والدولة. ويبذل السوداني كلّ الحرص من أجل عدم استثارة الصدر أو استفزازه، ويسعى إلى إبقاء خطوط الودّ معه قائمة حتى لا يكون في مواجهة الشارع الذي لن يرضى إلّا بإقالته إذا ما قرّر الخروج. لذلك يصرّ السوداني على توجيه رسائل ودّ إلى الصدر، واعتبار التيار الصدري “تياراً سياسياً له زعامة معروفة، وله دور فاعل في العملية السياسية. وسواء أكان موجوداً في البرلمان والحكومة أم خارجهما، نحترم قراره الانسحاب من البرلمان، ويهمّنا وجوده في العمل السياسي وأن يمارس دوره في النقد والإشارة إلى أيّ حالة سلبية ضمن الإطار القانوني والدستوري”.
إقرأ أيضاً: العراق: السوداني يستكمل خريطة الإستقرار
تبدو كبيرةً طموحاتُ السوداني إلى استيعاب جميع الأطراف وتدوير الزوايا، وتتّسم خطواته بالعقلانية والاعتراف بصعوبة وتعقيد الوضع. لذلك يفضّل، على ما يبدو، السير بين نقاط الأحزاب الشيعية من جهة، وسيول القوى الممثّلة للمكوّنات الأخرى، بانتظار أن تسمح الفرصة وتقتنع هذه الجماعات بأنّ مصلحتها باتت في دائرة الخطر ولا بدّ أن تتراجع وتتخلّى عن سياسة المحاصصة من أجل بقائها وبقاء العراق.