كان بعض الصحافيين والسياسيين في سنوات غابرة يتراوون في مقاهي بيروت طرفةً تُنسب إلى الرئيس نبيه برّي والزعيم وليد جنبلاط. تقول الطرفة ما معناه أنّ جنبلاط سأل برّي: ما بك تظلّ منهمكاً في أمور محليّة صغيرة؟ اذهب وتعرّف أكثر إلى العالم في الخارج، ودع الأمور الأخرى لمستشاريك أو مساعديك أو معاونيك. وتضيف الطرفة أنّ برّي نظر إلى حليفه وصديقه مبتسماً، ثمّ أجابه: أنت من يقدر أن يغيب مئة عام، وعندما تعود، تجد جماعتك في انتظارك. أمّا أنا فلا يمكنني أن أضمن بقاء هذا الكرسي إذا غبت أسبوعاً واحداً! هي طرفة، بالطبع. قد تكون صحيحة، وقد تكون “تركيبة” صحافيّ قصد بها وصف علاقة برّي وجنبلاط من جانب، وعلاقة كلّ منهما بالكرسي من جانب آخر.
إخوان الصفا والوفا
جنبلاط هو أقدم سياسيّي الحقبة الحالية، فطوال نحو 46 سنة لم ينقطع عن اللعبة السياسية وصناعتها وحراكها، ونبيه برّي ما يزال في السلطة منذ 40 سنة، وصاحب الولاية الأطول في تاريخ برلمانات لبنان منذ استقلاله، إذ جلس في كرسي رئاسة المجلس النيابي أكثر من 30 سنة.
بعد اتفاق الطائف قامت الترويكا الرئاسية على ثلاثية الرئيس إلياس الهراوي ورفيق الحريري وبرّي. لكنّ جنبلاط كان بيضة القبّان أو التقاطع بين الجميع
في المجالس السياسية اللبنانية لا يُذكر جنبلاط من دون برّي. وهما نواة أساسية في الحياة السياسية والحروب اللبنانية منذ بداية الثمانينيات. وفي كثير من المحطّات المفصليّة صار اسماهما مترادفَيْن في كلّ “طبخةٍ” سياسية أو حربية بارزة، خصوصاً منذ أن استدعاهما الرئيس إلياس سركيس إلى قصر بعبدا مع بشير الجميّل للتداول في سبل إنقاذ البلاد أثناء الاجتياح الإسرائيلي صيف 1982. وعندما عُيّن برّي وزيراً للمرّة الأولى في الحكومة التي تلت إسقاط اتفاق 17 أيار 1984، اشتعلت سماء بيروت وضاحيتها الجنوبية بالرصاص أمسيةً كاملة. ويُقال أنّ حزب الله الأخ اللدود لحركة أمل – نبيه برّي لم يلتصقا بما هما “ثنائي شيعي”، قدر ما التصق جنبلاط ببرّي. ولم تتردّد جريدة “الأنباء” التابعة للحزب التقدّمي الاشتراكي في الحديث عن “درب النضال المشترك بين زعيمَيْ المختارة وعين التينة”. وهو درب فيه “الكثير من الوقفات التي غيّرت وجه لبنان”، وأعادته إلى “أصالته وهويّته الحقيقية”، ومنها “ذكرى 6 شباط 1984، يوم أُسقط اتفاق 17 أيار الذي كان يخطف لبنان”. ولا تنسى الجريدة الجنبلاطية التأكيد أنّ “مشاريع الانعزال وخطف لبنان لا يمكن أن تنجح، لا في الحرب ولا في السلم”. وتجمع الزعيمان “بوصلة واحدة مهما عصفت رياح الأزمات”.
من هذا البيان يمكن فهم العلاقة الجنبلاطيّة – البرّيّة، التي كثيراً ما توصف بـ”الاستراتيجيّة” و”التاريخيّة” و”الوطنيّة”، إلى ما هنالك من عبارات ترد على ألسنة المستشارين والمعاونين.
تقدّمي اشتراكيّ وحركة محرومين
لا تلغي تلك الصفات ما بين رئيسَيْ التقدمي وأمل من شعارات متناقضة. لكن قبل الشعارات فلنقل إنّ وليد جنبلاط مولود عام 1949 والرئيس نبيه برّي مولود عام 1938. وهما من الجيل الثاني من السياسيين اللبنانيين. وجنبلاط الابن لم يكن يتصوّر أنّه سيقود الدفّة مبكراً بعد اغتيال والده كمال جنبلاط في عام 1977 برصاص النظام السوري. وهو وريثُ كرسي الإقطاع السياسي والعائلي والطائفي الجنبلاطي العتيق، وحامل شعارات “التقدّمي – الاشتراكي” و”العلماني”. وقد ارتدى عباءة زعامة المختارة وحمل لقب عمود السما العرفانيّ على حين غرّة. وورث معها أوّل جولة عنف ضدّ المسيحيين عقب اغتيال والده. وهو زعيم براغماتي مكيافيلّي، وغالباً ما يفكّر في وجود الدروز قبل كلّ شيء. تَجَرَّع علقم زيارة دمشق “الأسد” قاتِل والده، قبل أن ينقلب العلقم عسلاً وتمتدّ إقامته في العاصمة السوريّة شهوراً أحياناً، إثر التقائهما على نقطة تقاطعاتٍ محلّية وإقليمية ودولية (سوفيتيّة، سوريّة، درزيّة…).
طوال مرحلة التسعينيات جمعت برّي وجنبلاط “حربقات” سياسية وولاءات مشتركة وصناديق مهجّرين ومجالس إعمارية وجنوبية وولاءات أسديّة كانت تساهم في تعزيز الزبائنيّة حولهما
أمّا الأستاذ نبيه الجنوبيّ المغترب الذي حصل على لقب الأستاذ بسبب نيله إجازة في الحقوق وعمله محامياً على نحو عابر. وهو نشط في صفوف حزب البعث “العربي الاشتراكي” في بداية الستينيّات. ولم يكن وريث عائلة سياسية أو إقطاعية. وسرعان ما أصبح وريث مؤسّس حركة “أمل” للمحرومين التي أسّسها الإمام المغيّب موسى الصدر. والحركة التي صار برّي رئيسها انقلبت على بعض الإقطاعيين فيها ورفعت شعارات “المحرومين” و”الدولة المدنية”. إلا أنّ الأستاذ مع مرور الوقت تحوّل وجهاً من وجوه الإقطاع السياسي والنيابي الجديد، فهيمن على شطر من الدولة ووظائفها ومواردها. وأصبح على مدى أعوام طويلة ناطقاً باسم الشيعة في لبنان قبل ولادة “حزب الله” على الخطّ والنهج الخمينيَّيْن الإيرانيَّين. منذ البداية كان برّي ابن السياسة السورية الأسديّة في لبنان بكلّ تفاصيله وتفاصيلها. وهو في هذا يتفوّق بأشواط على جنبلاط الذي اتّهم الأسد بقتل أبيه، ثمّ لجأ إليه واستجار به كالمستجير مديداً بالنار من الرمضاء قبل انقلابه على وريث الأسد وبشّاره ونعته نعوتاً مقذعة من ساحة الشهداء في بيروت بعد اغتيال رفيق الحريري.
الترويكا وما قبلها
ما بين الزعيمين أنّهما تحوّلا قائديْن عسكريَّيْن أو زعيمَيْ ميليشيات بلباس مدنيّ في زمن الحرب الأهلية. وكانا نجمَيْ مؤتمر جنيف ولوزان، وانتفاضة 6 شباط وإسقاط اتفاق 17 أيار. وبرز جنبلاط في حرب الجبل في مواجهة “القوات اللبنانية”. وهذه الحرب كانت ركيزة تاريخية لزعامته في مقابل تصدّع الأرسلانيين المؤيّدين لقائد القوات اللبنانية بشير الجميّل.
وبرز برّي في حربه ضدّ المخيّمات الفلسطينية (العرفاتيّة تحديداً) وفي حربه ضدّ حزب الله والميليشيات البيروتيّة، مثل المرابطون. وبين الرجلين شراكة في حروب ولقاءات ومؤتمرات ونزاعات وتهجير وتبدّل ديمغرافي وفوضى غير خلّاقة. وفي المحصّلة تمخّضت الرعاية السورية عن “الاتفاق الثلاثي” الذي ضمّ جنبلاط وبرّي مع رئيس الهيئة التنفيذية في “القوات اللبنانية” إيلي حبيقة الذي أطاح به سمير جعجع. ثمّ تقاتلت أمل-برّي للمحرومين مع ميليشيا جنبلاط الاشتركية في شوارع بيروت بعد اجتثاثهما معاً المنظّمات الميليشيويّة الصغيرة السنّيّة العروبية والناصرية والعرفاتية فيها. وكان هذا كلّه مقدِّمة لدخول القوات السورية بيروت، والهيمنة على القرار اللبناني تحت شعار: “ما بين لبنان وسوريا لم نصنعه نحن إنّما صنعه الله”. ووسط هذا المشهد كان برّي وجنبلاط يختلفان ويتصالحان في ظلّ وإدارة عبد الحليم خدّام وحكمت الشهابي وغازي كنعان.
بعد اتفاق الطائف قامت الترويكا الرئاسية على ثلاثية الرئيس إلياس الهراوي ورفيق الحريري وبرّي. لكنّ جنبلاط كان بيضة القبّان أو التقاطع بين الجميع. وطوال مرحلة التسعينيات جمعت برّي وجنبلاط “حربقات” سياسية وولاءات مشتركة وصناديق مهجّرين ومجالس إعمارية وجنوبية وولاءات أسديّة كانت تساهم في تعزيز الزبائنيّة حولهما.
في السنوات الأخيرة لم يلتقِ برّي وجنبلاط على معارضة أيّ قوة سياسية كما التقيا على خصومة الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل، ومعارضة التسوية الرئاسية. وهما ساهما بشكل رئيس في تعطيل العهد الذي كان يحاول محاربتهما
أرانب وبيضة قبّان
كان زعيم المختارة شريك التفاهمات والصفقات والتسويات أيام الترويكا. ولم يقطع الخيْط الذي يربطه ببرّي. أحياناً تحصل مناورات بينهما، وتصريحات من هنا وهناك، لكنّ الخاتمة تكون باللقاءات. حتى في خضمّ المأزق السياسي الذي حصل نتيجة جريمة 14 شباط 2005، كان جنبلاط وبرّي أساسيَّين في التحالف الرباعي. وكلاهما حاولا إقامة جسور حوار مع المسيحيين المعارضين للوجود السوري. نجح جنبلاط، وكان قادراً على إيجاد نقاط تقاطع مع الأحزاب المسيحية. لكنّ برّي كان حذراً بحكم الاعتبارات السورية والشيعية، فلم يخرج عن السياق المرسوم له، أو الذي رسمه لنفسه. أبقى هامشاً للمناورة وللحوار، لكن تحت سقف المجلس النيابي.
عند كلّ مأزقٍ كان برّي يتصرّف على أساس أنّه يستطيع إخراج أرنب من كمّه. أمّا جنبلاط فيتصرّف على أساس أنّه بيضة القبّان. حتى أحداث 7 أيار عام 2008، حين نفّذ “حزب الله” غزوة بيروت التي شاركت فيها أمل-برّي بكثافة، لم تنجح في فكّ أواصر العلاقة بين برّي وجنبلاط، وهي سهّلت الذهاب إلى اتفاق الدوحة.
غالباً ما كان برّي يعتبر أنّ سوريا ولبنان تجمعهما علاقة استراتيجية. أمّا جنبلاط فكان ينتظر على ضفّة النهر ليرى جثث أعدائه وقتلة والده طافية على مياهه. بقي طوال سنوات “سوريّاً بالسياسة”. وبعد رحيل حافظ الأسد طالب بتموضع القوات السورية في البقاع، فتوتّرت العلاقة بينه وبين بشار الأسد، وازداد التوتّر بعد اغتيال الحريري، بل حصلت القطيعة. وصالحهما الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله عام 2010.
في السنة التالية، أي عام 2011، بعد انفجار الثورة والحرب في سوريا، قلب وليد جنبلاط نهائيّاً صفحة سوريا. أمّا التوتّر في العلاقة بين برّي والنظام كالسوري، فبرز في خطاب 31 آب 2011. يومذاك خرج برّي ليقول: “أدعو الرئيس الدكتور بشار الأسد إلى حركة تصحيحية ثانية في سوريا”. واليوم تبدو علاقة برّي بسوريا رماديّة.
توريث وانهيار
في السنوات الأخيرة لم يلتقِ برّي وجنبلاط على معارضة أيّ قوة سياسية كما التقيا على خصومة الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل، ومعارضة التسوية الرئاسية. وهما ساهما بشكل رئيس في تعطيل العهد الذي كان يحاول محاربتهما.
في الانتخابات النيابية الأخيرة، كان جنبلاط متوجّساً وخائفاً على الزعامة الدرزية بعد انتفاضة 17 تشرين، وتنامي حضور بعض خصومه. لكنّه انتقم من القانون الانتخابي الذي كان وضعه أو فرضه جبران باسيل بمساعدة حزب الله، فأعاد حصْر الكتلة الدرزية في يديه. ويتردّد أنّه تلقّى دعماً من برّي في بعض المناطق. وكانت غايته تعبيد الطريق أمام وريثه تيمور جنبلاط. وفي انتخابات رئاسة المجلس النيابي، التي حاول فيها باسيل أن يحارب برّي، كان جنبلاط في طليعة داعمي تجديد رئاسته المجلس النيابي.
إقرأ أيضاً: جنبلاط وأبو فاعور.. “يا ورد مين يشتريك”!
الفرق الجوهري بين الزعامتين أنّ جنبلاط ورّث ابنه، فيما نبيه برّي لا يبدو أنّه طامح إلى توريث ابنه أو قريب منه حتى الآن. وفي علاقة جنبلاط وبرّي الكثير من الخفايا والخبايا، وخصوصاً في ما يتّصل بالعلاقة مع سوريا. هما صندوقة أسرار في هذا المجال وفي المعارك النيابية والرئاسية والوزارية. علاقتهما التحالفية اللدودة عمرها ما لا يقلّ عن 40 سنة. واليوم يبدو أنّ مصير الرئاسة يتأرجح على إيقاع تحرّكهما أو طبخاتهما، فيما يعيش البلد مرحلة تحلّل وتفكّك تشبه إلى حدّ كبير المرحلة التي صعد فيها نجمهما في النصف الأول من الثمانينيات. لكن في هذه المرحلة لم يعد من بيضة قبّان ولا سحر أرانب.