شبه جزيرة “الميناء”: والدة “طرابلس”… وأصلها

مدة القراءة 7 د

قبل القرن الثالث عشر لم تكن طرابلس قد ولدت بعد. كانت مدينة الميناء التي يمتدّ تاريخها إلى ثلاثة آلاف سنة. في العام 1289 استطاع سلطان دولة المماليك في مصر والشّام الملك المنصور قلاوون فتح المدينة وهدمها. وحينها أمر ببناء المدينة من جديد، وأصبحت طرابلس. لهذا يمكن القول إنّ الميناء هي والدة طرابلس،، وعاصمة الشمال هي وريثتها. 

أكثر من ذلك: بنيت طرابلس بحجارة الميناء التي هدمها قلاوون: “قبل الفتح الإسلامي، عندما هدم قلاوون المدينة، نقل حجارة الغرانيت ليبني بها طرابلس، وما نشاهده اليوم من بقايا العواميد الموجودة في الميناء هو من آثار الصليبيّين في فترة وجودهم في المدينة، قبل مرحلة قلاوون”، يقول ابن المدينة وأحد حماة ذاكرتها، القيادي الطرابلسي توفيق سلطان في حديث لـ”أساس”. ويدعونا إلى العودة للتاريخ “… كي نفهم المدينة”.

تاريخ مدينة الميناء

عرفت الميناء خلال تاريخها الطويل أسماء كثيرة كانت تتغيّر بتغيّر المحتلّ، ومن هذه الأسماء: ميناء طرابلس، الميناء، ميناء طرابلس الشام، أسكلة طرابلس الشام، أسكلة طرابلس، الأسكلة. هي المحاطة من البحر من الجهات الثلاثة، لتكون “شبه جزيرة”.

حتّى العام 1913 كان عدد سكانها أقلّ من 9 آلاف (8.535) نسمة. أي أنّها كانت بلدة بمقاييس اليوم. لكنّه ارتفع إلى 13.400 في 1932، بسبب هجرات أهل جزيرة كريت والأرمن واليونانيين وغيرهم، على ما يقول كتاب “الميناء في ذاكرة الغد” للكاتب أنطون نعوم. وارتفع عدد سكانها في السنوات العشرين الأخيرة من 30 إلى أكثر من 100 ألف، على مساحة لا تزيد عن 5 كيلومترات مربّعة.

في 2009 حرّر مجلس بلدية الميناء أكثر من 500 عقار قديم (أي أنّه فرزها ورفع عنها التخطيط، بمرسوم رقمه 665 تاريخ 7 تشرين الثاني 2008). وبعدما كانت مقسومة بين منطقة بحريّة وأخرى داخلية، فتح المرسوم الباب أمام ربط المنطقتين.

تفسّخ مجتمع الميناء

رئيس بلدية الميناء السابق عبد القادر علم الدين، الذي كان أبرز من ترأسوا البلدية، لسنوات طويلة، يحنّ إلى ذلك الماضي، قبل أن تصبح المدينة “حيّاً من أحياء طرابلس، لا يوجد فيها خدمات مع الأسف الشديد”.

ويقول في حديث لـ”أساس” إنّ الميناء اليوم “تختلف كثيراً عن الميناء التي عرفناها في السابق. فأهل المدينة كانوا يعيشون كعائلة واحدة لا فرق بين مسلم ومسيحي، لكن بدأت هذه العادات والتقاليد الاجتماعية تختفي تدريجياً بدءاً من العام 1980 وصولا للعام 1987، حين كثرت ظاهرة الهجرة من المدينة بسبب الحروب. أما بعد العام 1990 فازداد الوضع سوءاً في المدينة وتوافد اليها سكان من الارياف بعد أن غادرها سكانها الاصليين، ومن أماكن أخرى أيضاً، وهؤلاء غيّروا من طابعها الاجتماعي والإنساني”.

يروي بأسف أنّ “المدينة كان فيها يد عاملة فاعلة، وسكانها بغالبيتهم من الطبقة الوسطى الراضية والمقتنعة بوضعها الاجتماعي، أضف الى ذلك المدرسة الرسمية كانت هي الأساس لأهالي أطراف المدينة، والتي أنتجت الكثير من الأطباء والمهندسين”.

لقب “ابن مينتي”

تروي ابنة مدينة الميناء سعاد حصني لـ”أساس” حكاية وسرّ لقب “ابن مينتي”. وهي من الأقوال التي تحوّلت إلى “محطّ كلام” بين أبناء المدينة، أينما التقوا ببعضهم البعض في لبنان أو حول العالم: “هذا يعود إلى الأزمنة القديمة التي اعتدنا فيها على التعاون والتعاضد بين أبناء المدينة، فترى المسيحيين يتبرّعون ماليّاً لبناء مسجد عمر بن الخطاب كما ورد في دفتر التبرّعات الصادر عن لجنة بناء الجامع في الستّينيّات، وترى المسلمين يسهمون يدويّاً في ترميم الكنائس، كما جرى في بناء كنيسة النبي إلياس، زمن الاقتتال الأهلي في جبل لبنان عام 1861، بعد عاصفة بحريّة كادت تودي بحياتهم. وربّما يكون هذا التكاتف هو وليد ملح البحر والسعي المشترك إلى اصطياد لقمة العيش من قاعه”.

فالمجتمع الميناويّ خليط من صيادين، عاشوا أمام 7 جزر صغيرة يصطادون من حولها، وبين حرفيّين يدويّين: “فهم صنعوا الحجر الرملي، واشتغلوا في تصنيع الكلس لدهان الحيطان، وصنّعوا أدوات البناء بمهارة. وتبيِّن ذاكرة أبناء الميناء العتيقة وأرشيفها مهارة اليد الشعبية المتعاونة التي اشتغلت ببناء المساجد والكنائس”، تقول حصني.

أما سلطان فيكشف أنّ لقب “مينتي” ساد “عند الانتقال من منطقة إلى منطقة. فمثلاً من ينزل من القبّة إلى طرابلس يقول “غربتي” بسبب المسافات، وداخل المدينة يقول “مينتي”.

الخمّارات في الميناء

يعود سبب وجود الخمّارات في مدينة الميناء، وتحديداً في شارع مار إلياس، بحسب سلطان، إلى أنّ “المحيط المسيحي منفتح دائماً أكثر من المحيط الإسلامي. أبناء المنطقة من الطائفة المسيحية منفتحون وتعلّموا اللغات عن طريق الإرساليات، وهذا الاختلاط سهّل فتح هذه الخمّارات في المدينة. إضافة إلى وجود جالية يونانية، بقي منها إلى يومنا هذا النادي اليوناني. وقديماً كانت في مدينة الميناء قنصليّات يونانية وإيطالية وفرنسية، أي باختصار كان هناك تواصل ثقافي ناشط مع دول أوروبية”.

ويتابع سلطان كلامه: “كان في الميناء 3 مستشفيات:

1- المستشفى الأميركي: وهو مستشفى مديره أميركي، وقد هُدم وبُني مكانه اليوم مطعم الشاطئ الفضيّ.

2- المستشفى الأهليّ الذي كان يديره الدكتور عبد الله سعادة.

3- مستشفى الحسيني”.

العلاقة بين أهل طرابلس والميناء

 وصف الكاتب والشاعر الفارسي ناصر خسرو علوي في كتابه “سفرنامة” الحركة التجارية النشطة في المرفأ أثناء زيارته للمدينة في القرن 11 (عام 1047 ميلادي)، أيّام الدولة الفاطمية، بقوله: “… تحصل المكوس بهذه المدينة، فتدفع السفن الآتية من بلاد الرّوم والفرنج والأندلس والمغرب العُشر للسلطان، ومنها سفن تسافر إلى بلاد الروم وصقلية والمغرب للتجارة…”.

أي أنّ المرفأ كان “صلة وصل بين دول أوروبا وبين المغرب العربي، من شرق المتوسّط.  وعن طريق هذا المرفأ كانت تتمّ عمليات التصدير والاستيراد. فكانت مدينة الميناء تمثّل همزة وصل، أو جسراً بين الشرق والغرب، وملتقى للقوافل التجارية، برّيّة كانت أم بحريّة.

كانت المدينة تصدّر الحمضيّات إلى أوروبا، عبر البحر. لهذا يسمّي أهل طرابلس الليمون الحامض باسم “المراكبي”، لأنّهم كانوا يصدّرونه عبر المراكب الخشبية إلى مرسيليا، بحسب سلطان.

يقول تجّار من المدينة لـ”أساس” إنّ “الميناء كانت مرفأ الشّمال الأوّل والحيويّ ليس لطرابلس والميناء فقط، بل لسوريا أيضاً. فقد كان هذا المرفأ مركزاً للتصدير والاستيراد لأكثر الدول العربية ولبعض الدول الأوروبية، وكان يعجّ بالسّفن. لذلك كان قناصل فرنسا وإنكلترا وأميركا والنّمسا وروسيا وهولندا يسكنون المدينة. ونتيجة ازدهار المرفأ أُنشئت المؤسّسات التجارية والوكالات والفنادق والخان والجمرك وسكّة الحديد…”.

لماذا ازدهرت السياحة؟

جزر الميناء السبعة خالية حالياً من السّكان والعمران, لكنّ بعضها كان عامراً في العصور الوسطى، إذ بنى الصليبيّون فيها دُوراً وكنائس لهم. وأكبر هذه الجزر وأهمّها على الإطلاق جزيرة النّخل أو الأرانب بطول 560 متراً وعرض 460 متراً. وقد سُمّيت بالأرانب لأنّ قنصل فرنسا وضع فيها عدداً من الأرانب التي تناسلت وتكاثرت.

إقرأ أيضاً: في طرابلس.. لكلّ “بِركة” قصّة وتاريخ

تلي جزيرة “سنني” جزيرة “النخل” في المساحة، بطول 380 متراً وعرض 100 متر، وأرض هذه الجزيرة صخرية، تقع على بعد نصف كيلومتر شرق جزيرة “النخل”.

وتقع جزيرة “الفنار” بالقرب من الجزيرتين السابقتَيْ الذكر، وتبلغ مساحتها ما يقارب 16.000 متر مربّع. وقد أنشأت وزارة الأشغال العامّة في هذه الجزيرة فناراً (منارة) لإرشاد السّفن، وهي تعرف بـ”جزيرة الفنار”. جُهّزت بالمدفعية المضادّة للطائرات، أثناء الحرب العالمية الثانية، لصدّ الغارات الألمانية على مدينتَيْ طرابلس والميناء.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…