أوكرانيا غيّرت النظرة إلى إيران

مدة القراءة 6 د

لا يمرّ يوم من دون اكتشاف كم غيّرت الحرب الأوكرانيّة العالم. غيّرته إلى درجة باتت فيها أوروبا مقتنعة بأنّها مهدّدة في الصميم. ربطت أوروبا مستقبلها بما إذا كان فلاديمير بوتين سيتمكّن من إخضاع هذا البلد أم لا. لم يعد محور النقاش الدائر بين الأوروبيّين، بحضور الأميركيّين، إرسال أسلحة إلى أوكرانيا بمقدار ما أنّه يدور في المرحلة الراهنة حول ما إذا كان المطلوب دعم أوكرانيا بطائرات مقاتلة أم لا.

هناك انقسام أوروبي واضح في هذا الشأن، لكنّ المبدأ لم يتغيّر. يقول المبدأ المعتمَد أوروبيّاً إنّه لا مجال لانتصار روسيّ في أوكرانيا. انتصار روسيا يعني العودة إلى أوروبا ما قبل سقوط جدار برلين في تشرين الثاني من عام 1989.

لا يمرّ يوم من دون اكتشاف كم غيّرت الحرب الأوكرانيّة العالم. غيّرته إلى درجة باتت فيها أوروبا مقتنعة بأنّها مهدّدة في الصميم

لم يساعد سقوط جدار برلين في إعادة توحيد ألمانيا فقط. مهّد ذلك لتحرُّر دول عدّة مثل تشيكوسلوفاكيا (انقسمت بعد ذلك إلى تشيكيا وسلوفاكيا) وهنغاريا وبولندا ورومانيا وبلغاريا. لدى ثلاث من هذه الدول، رومانيا وهنغاريا وبولندا، حدود مشتركة مع أوكرانيا. فضلاً عن ذلك، ستعني السيطرة الروسيّة على أوكرانيا سقوطاً أوتوماتيكيّاً لدول البلطيق، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، في الفلك الروسي. هذا ما يفسّر طلب السويد وفنلندا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي بعدما كان الحياد في صلب السياسة الخارجيّة لهذين البلدين.

لم تساعد الحرب الأوكرانيّة في كشف طبيعة الرئيس الروسي وكونه شخصاً معزولاً متهوّراً يُتقن المناورة والابتزاز فحسب، بل كشفت أيضاً عمق العلاقة القائمة بين “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران وبوتين نفسه. لم يتردّد الرئيس الروسي في التدخّل عسكريّاً بشكل مباشر في الحرب على الشعب السوري بمجرّد أن طلب منه قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني ذلك في أيلول 2015 بعدما صار الساحل السوري، معقل العلويّين، مهدَّداً بالسقوط في يد المعارضة السوريّة. أرسل بوتين قاذفات روسيّة إلى قاعدة حميميم قرب اللاذقية. منع ذلك سقوط الساحل السوري وساهم في بقاء بشار الأسد في دمشق. وفي نيسان من عام 2018، لعب ضبّاط سوريون محسوبون على روسيا دوراً في استخدام الأسلحة الكيميائية لإخضاع بلدة دوما القريبة من دمشق. هذا ما كشفه حديثاً تقرير لمنظّمة حظر الأسلحة الكيميائية التي مقرّها في لاهاي. سارعت وزارة الخارجية الروسيّة إلى التنديد بهذا التقرير ورفض التعاون مع فريق التحقيق التابع لهذه المنظّمة.

يظلّ انضمام إيران إلى روسيا في حربها على أوكرانيا تطوّراً في غاية الأهمّيّة. يستخدم الجيش الروسي مسيَّرات وصواريخ إيرانية في محاولته الدفاع عن مواقعه في أوكرانيا وترهيب الشعب الأوكراني. تعرف إيران قبل غيرها أنّ هزيمة بوتين في أوكرانيا ستعني هزيمته داخل روسيا نفسها حيث لا حماسة شعبيّة لحرب مستمرّة منذ سنة تستنزف بلداً يعاني تناقصاً سنويّاً للولادات.

في ضوء الدور الذي تلعبه إيران في أوكرانيا، تحوّلت إلى تهديد للأمن الأوروبي. فجأة استفاقت دول أوروبيّة عدّة على وجود مشروع توسّعي إيراني تتجاوز حدوده منطقتَيْ الشرق الأوسط والخليج. على سبيل المثال وليس الحصر، اكتشفت فرنسا أنّ لديها رهائن في إيران وأنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” لم تتوقّف يوماً عن ممارسة سياسة أخذ رهائن أوروبيين وأجانب لإخضاع دول معيّنة لرغباتها. كذلك، اكتشفت فرنسا أنّ إيران تهرِّب أسلحة إلى الحوثيين في اليمن. صادرت البحريّة الفرنسيّة أخيراً كمّيّة من الرشّاشات والذخيرة والصواريخ المضادّة للدبّابات مرسلة بحراً إلى الحوثيين من أحد الموانئ الإيرانيّة. فعل الأميركيون الشيء ذاته.

هناك انقسام أوروبي واضح في هذا الشأن، لكنّ المبدأ لم يتغيّر. يقول المبدأ المعتمَد أوروبيّاً إنّه لا مجال لانتصار روسيّ في أوكرانيا. انتصار روسيا يعني العودة إلى أوروبا ما قبل سقوط جدار برلين في تشرين الثاني من عام 1989

لم يعد سرّاً أنّ النظرة الأميركيّة تغيّرت إلى إيران وبات هناك نوع من التنسيق الأميركي – الإسرائيلي في مجال إفهام “الجمهوريّة الإسلاميّة” أن ليس في استطاعتها المضيّ في برنامجها النووي إلى النهاية. ضربت إسرائيل في داخل إيران. استهدفت بين ما استهدفته ما يُعتقد أنّه مخزن، أو مصنع، للصواريخ في أصفهان. في الوقت ذاته، قصفت طائرات مجهولة، يُعتقد أنّها أميركيّة، قوافل أسلحة إيرانيّة عبرت إلى سوريا من العراق. حدث ذلك في وقت كان في إسرائيل عدد من المسؤولين الأميركيين، بينهم وليم بيرنز مدير وكالة الاستخبارات المركزيّة (سي. آي. إي) الذي لعب في الماضي دوراً في المفاوضات السرّيّة التي أدّت صيف عام 2015 إلى الاتّفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني.

بنيامين نتانياهو نفسه، “صديق” فلاديمير بوتين، تغيّر. تظهر حاليّاً بداية انحياز إسرائيلي إلى أوكرانيا بعد فترة طويلة من التردّد في اتّخاذ موقف واضح من الحرب التي يشنّها الرئيس الروسي على هذا البلد الأوروبي. لم يكن هناك اهتمام أوروبي باستقبال رئيس الحكومة الإسرائيلية لولا اكتشاف الدور الإيراني في أوكرانيا.

في الإمكان الإتيان بأمثلة كثيرة على مدى التغيُّر الذي طرأ على الموقفين الأميركي والأوروبي من إيران في وقت تشهد فيه “الجمهوريّة الإسلاميّة” تحرّكاً شعبياً واسعاً يستهدف التخلّص من نظام قائم على فكرة القمع.

إلى أيّ مدى سيذهب العالم الغربي، الذي اقتنع أخيراً بأنّ الصواريخ والمسيَّرات الإيرانيّة جزء من المشروع التوسّعي الإيراني وأنّ هذه الصواريخ والمسيّرات التي تستخدمها ميليشيات مذهبيّة منتشرة في كلّ أنحاء المنطقة لا تقلّ خطورة عن البرنامج النووي الإيراني؟

إقرأ أيضاً: أوكرانيا… هل تدفع ألمانيا للتمرّد على الغرب؟

يوجد تحوُّل في الموقفين الأوروبي والأميركي من إيران التي لم تخفِ يوماً أنّها تسعى إلى لعب دور القوّة المهيمنة على الخليج والشرق الأوسط، خصوصاً منذ سلّمتها إدارة بوش الابن العراق على صحن من فضّة في عام 2003.

من المؤسف أنّه كان على “الجمهوريّة الإسلاميّة” الذهاب إلى أوكرانيا كي يكتشف الأوروبيون والأميركيون مدى خطورة هذا النظام على الإيرانيين أنفسهم وعلى دول عربيّة مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن. أن تستفيق أوروبا، ومعها أميركا، متأخرتين أفضل من ألّا تستفيقا أبدا. لكنّ الأكيد أنّ الحرب الأوكرانية التي تدخل في الرابع والعشرين من شباط الجاري سنتها الثانية ستأتي بمزيد من التغييرات على مستوى المنطقة العربية والعالم، وحتّى على مستوى دول مجاورة مثل أذربيجان بدأت تتعرّض لمزيد من الاستفزازات الإيرانية أخيراً.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…