في قرار دولرة أسعار السلع الغذائية الاستهلاكية، لم يكشف وزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام من هي المرجعيّة الصالحة لتحديد سعر الصرف؟ اكتفى سلام بإعلان القرار المنتظر، والإشارة إلى أنّ الدفع سيتمّ بالليرة وفق “سعر صرف السوق” أو “بالدولار النقدي”!، ثمّ أعطى “مهلة أسبوع” قبل إصدار القرار الرسمي.
اعتبر سلام أنّ “دولرة الأسعار” ستكون كفيلة بحلّ المشكلة، وهذا قد يبدو أمراً صحيحاً من الناحية النظرية. لكنّ الخوض في التفاصيل يكشف أنّ “الدولرة” قد تزيد الأمور تعقيداً، خصوصاً في ظلّ تفلّت سعر الصرف في “السوق السوداء” وعدم وجود مرجعية موحّدة تحدّد هذا السعر.
قد يبدو سلام غير مسؤول عن مشكلة التطبيقات، لكن لا يمكن تخطّيها بهذه البساطة وترك المواطنين لمصيرهم بمواجهة عشرات التطبيقات التي يتحكّم بها صرّافون غير شرعيّين ومضاربون، وكلٌّ منهم يرسم السعر بهامش مختلف. أضف إلى ذلك أنّ الارتفاع والانخفاض اللذين يطرآن أكثر من مرّة كلّ يوم من خارج العرض والطلب ومن دون معرفة الأسباب سيكونان مشكلة إضافية. وكلّنا يذكر ذاك التسجيل الصوتي الشهير الذي انتشر قبل نحو سنة بين المواطنين للصرّاف علي نمر: “حاج تعمل انخفاااااض”، وهذا يعني أنّ الصرّافين غير الشرعيين والمضاربين سيتحكّمون بلقمة عيشنا بعدما أجهزوا على أموالنا وعلى قدرتها الشرائية.
اعتبر سلام أنّ “دولرة الأسعار” ستكون كفيلة بحلّ المشكلة، وهذا قد يبدو أمراً صحيحاً من الناحية النظرية
في المبدأ، كان أوّل من أوصى بـ”دولرة” الأسعار قبل نحو عام المجلس المركزي في مصرف لبنان خلال أحد اجتماعاته ونقاشاته. في حينه اقترح المجلس الركون إلى هذا الإجراء من أجل الحدّ من تضخّم الأسعار المفتعل من قبل التجّار بحجّة تقلّبات سعر الصرف. لكنّه في الوقت عينه أوصى بأن يجري “تقريش” الأسعار على سعر منصّة “صيرفة”، باعتبار أنّ هذه الخطوة ستدفع قدماً نحو توحيد سعر الصرف وتحريره، وستساعد على الحدّ من معاناة المواطنين بسبب “جشع التجار”، لكنّ ذلك لم يحصل.
ما هي الخيارات المتاحة؟
لذلك وضعنا وزير الاقتصاد أمام 3 خيارات:
1- ربط أسعار السلع بسعر “صيرفة”، وهذا لن يلتزم به أيٌّ من التجّار والبائعين. (اللهمّ إلّا إذا ربط مصرف لبنان سعر “صيرفة” بسعر السوق، وهذا أمر مستبعد جدّاً).
2- اعتماد سعر خاصّ بالوزارة وفق الآليّة التي تتبعها وزارة الطاقة لتحديد أسعار المحروقات، وهذا سيزيد أسعار الصرف على اختلافها وتنوّعها سعراً إضافياً، الأمر الذي لن يغيّر شيئاً.
3- اعتماد “سعر السوق” الخاصّ بالتطبيقات، أي العودة إلى المربّع الأول، وجعل التطبيقات كما في السابق تتحكّم بأسعار السلع بما يفوق سعر الصرف.
يقول أغلب الاقتصاديّين إنّ “دولرة” أسعار السلع ستقوم بما يلي:
– مساعدة المواطن على مقارنة الأسعار بين متجر وآخر.
– ضبط التقلّبات في الأسعار، لأنّها لن تتغيّر بالدولار كما كانت تتغيّر بالليرة اللبنانية بحجّة تقلّبات سعر الصرف.
– تحفيز المنافسة بين التجّار، وذلك لأنّ أسعار السلع بالدولار ستكون واضحة أمام المستهلكين.
ما ستقوم به وزارة الاقتصاد في الواقع هو إجراء تقنيّ بحت يشبه الهروب من المسؤولية. فبدل أن تبادر أجهزة الوزارة المذكورة إلى ضبط الأسعار من خلال المراقبة، وتسطير المحاضر بحقّ المخالفين والمتلاعبين، في محاولة منها لتوحيد الأسعار لدى التجّار والمستوردين بالحدّ الأدنى، تلجأ إلى التسعير بغير العملة الوطنية، بل بسعر عملة تتحكّم به جهات يقوم القضاء اللبناني أصلاً بملاحقتها، ويشتكي مصرف لبنان من تلاعبها بسعر الصرف.
عدم تعيين “مرجعية” تحدِّد سعر الصرف سيفتح المجال أمام التجّار لاعتماد أسعار متضاربة، وبذلك نعود إلى نقطة البداية: بدل التسعير بسعر متفلّت بالليرة، سيكون التسعير متفلّتاً بالدولار
ما هي النتائج المباشرة؟
أمّا المفاعيل المباشرة، التي سينتجها ذاك القرار، فكثيرة وتُختصر بما يلي:
1- عدم تعيين “مرجعية” تحدِّد سعر الصرف سيفتح المجال أمام التجّار لاعتماد أسعار متضاربة، وبذلك نعود إلى نقطة البداية: بدل التسعير بسعر متفلّت بالليرة، سيكون التسعير متفلّتاً بالدولار.
2- قد يلجأ المواطنون إلى الدفع بالدولار بدل الليرة، خصوصاً في حال غياب تلك “المرجعية”، وهذا سيحفّز الطلب على الدولار بشكل إضافي، وسيساهم في ارتفاع سعر الصرف أكثر.
3- تقلّبات أسعار السلع على الرفوف ستزيد بوتيرة أسرع، لأنّ تبديل الأسعار في المحالّ التجارية الكبرى كان يحصل بين يوم وآخر وعلى مرحلتين في أقصى حدّ (نتيجة طبع الستيكرز وتبديلها). أمّا اليوم فإنّ ارتفاعها وانخفاضها قد يحصل على الصندوق وبدقائق (يكفي تبديل سعر الصرف كلّ 5 دقائق على السيستم).
4- ستُضاف إلى أزماتنا أزمة جديدة ستكون هذه المرّة بين التجّار أنفسهم وزبائنهم، وستتعلّق بالسعر الذي سيعتمدونه، والتطبيق الذي سيستقون منه السعر، وسيكون السؤال: هل هو السعر الحقيقي أو الفعليّ للدولار؟ ولماذا هذا التطبيق وليس ذاك؟ (سعر “صيرفة” يتغيّر مساء كلّ يوم، فيما أسعار التطبيقات تتقلّب كلّ 5 أو 10 دقائق).
5- لا شيء يضمن عدم تقاطع المصالح بين التجّار والصرّافين والمضاربين عند عدم خفض سعر صرف الدولار على التطبيقات، أو التحايل من أجل رفعه أو خفضه في محطّات أو مناسبات محدّدة، مثلاً بداية كلّ شهر مع دفع الرواتب أو خلال الأعياد أو في مناسبات اجتماعية محدّدة، لجني المزيد من الربح.
6- ستُفتح شهيّة سائر القطاعات على “دولرة” خدماتها. فمثلاً قد تطالب محطّات الوقود بتسعير البنزين بالدولار في المحطات، وترك الخيار للزبائن في اعتماد عملة الدفع، لأنّ ذلك سيكون في نظر أصحاب المحطات حلّاً لعدم تكبّدهم الخسائر نتيجة تسعيرة وزارة الطاقة “البطيئة”.
إقرأ أيضاً: سيرك 1 شباط: مطلوبات البنوك باللولار.. والموجودات بالدولار
ليس قرار “دولرة” الأسعار أمراً سيّئاً إذا قُرِن بتعيين “مرجعية” موحّدة تحدّد سعر الصرف، تكون موثوقة وتخضع لآليّة “العرض والطلب” الحقيقيَّين، ويستطيع جميع المواطنين معرفة من يديرها. لكن أن تتمّ “الدولرة” بهذه الطريقة، فذلك لن يغيّر أيّ شيء، وحريٌّ بوزير الاقتصاد أن ينكبّ على ضبط استيراد السلع بدل تحديد العملات التي سيتمّ بها البيع!