الثابت والمتغيّر بين الصين وأميركا

مدة القراءة 5 د

يوافق هذا الأسبوع مرور نصف قرن على العمليّة الدبلوماسية التي قام بها الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون للانفتاح على الصين.

حدث ذلك في عام 1972. كان على رأس الدولة الصينية في ذلك الوقت ماو تسي تونغ، ومعه رئيس وزرائه تشو إن لاي. وكانت الصين والاتحاد السوفيتي في حال صراع، بل حرب حدود.

هدف الانفتاح الأميركيّ

لعب وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت الدكتور هنري كيسنجر دوراً رئيساً في لعبة الانفتاح. كان هدف الدبلوماسية الأميركية (نيكسون – كيسنجر) تحقيق أمرين:

– الأوّل: توظيف الخلاف الصيني – السوفيتي لتعزيز مواقع الدبلوماسية الأميركية في آسيا، وطمأنة حلفائها، وخاصة اليابان وكوريا الجنوبية.

– الثاني: حمل الصين على عدم توظيف الانسحاب الأميركي من فيتنام سياسياً وعسكرياً. ففي ذلك الوقت كانت القوات الأميركية تعاني بسبب اشتداد المقاومة الفيتناميّة. وكانت إدارة نيكسون تخطّط للانسحاب. ولكن ما كانت تريد تعريض القوات الأميركية ولا الدبلوماسية الأميركية لمذلّة الانكسار. وكانت الصين تدعم قوات “الفيتكونغ” بالسلاح والتدريب والمال والغذاء، ولذلك أراد الرئيس نيكسون أن يتّفق مع الصين على “انسحاب مشرّف” للقوات الأميركية من فيتنام.

أدّت زيارة الرئيس نيكسون للصين في عام 1972 إلى فكّ عزلة الصين عن العالم، ففتحت أسواقها ومصانعها وأرسلت طلّاب الدراسات العليا إلى الجامعات الأميركية ليعودوا إليها مزوّدين بأحدث النظريّات العلمية الحديثة

يومذاك لم يطرح الرئيس الصيني ماو تسي تونغ قضيّة تايوان. كان همّه في مكان آخر، في شمال الصين، حيث تنتشر القوات السوفيتية حتى منغوليا. وكانت زيارة نيكسون لبكين واجتماعه بماو تسي تونغ كافيَيْن لتوجيه رسالة إلى موسكو مفادها أنّ هناك تفاهماً أميركياً – صينياً يمكن أن يتطوّر إلى تحالف. فهِم الكرملين الرسالة وتراجعت على الفور العمليّات العسكرية السوفيتيّة في الشمال الصيني.

ما كان للرئيس الأميركي أن يذهب في مبادرته إلى أكثر من ذلك. فالصين دولة شيوعية. والتحالف الأميركي – الصيني كان يبدو كالجمع بين الماء والنار. لكنّ العدوّ المشترك في ذلك الوقت، وهو الكرملين، حقّق ما اعتبرته الولايات المتحدة في حينه “معجزة” دبلوماسية. ساعد على ذلك أنّ الصين لم تكن جاهزة بعد للمطالبة باسترجاع تايوان إلى الوطن الأمّ.

بين الأمس واليوم

اليوم الوضع مختلف تماماً. فاستعادة تايوان تتصدّر سلّم الاهتمامات القومية للرئيس الصيني شي جينبينغ. ومن أجل ذلك تمّ التجديد له للمرّة الثالثة، وهذا ما لم يحدث قبل الآن.

أدّت زيارة الرئيس نيكسون للصين في عام 1972 إلى فكّ عزلة الصين عن العالم، ففتحت أسواقها ومصانعها وأرسلت طلّاب الدراسات العليا إلى الجامعات الأميركية ليعودوا إليها مزوّدين بأحدث النظريّات العلمية الحديثة.

قبل نصف قرن لم ينجح الرئيس الأميركي نيكسون في جذب الصين إلى تحالف معادٍ للاتحاد السوفيتي، على الرغم من الاشتباكات المسلّحة التي وقعت بين القوات الصينية والسوفياتية في ذلك الوقت

وهكذا حقّق نيكسون هدفه: عدم إقدام القوات الصينية على دخول فيتنام بعد انسحاب القوات الأميركية منها، وحقّق ماو تسي تونغ هدفه: انفتاح الصين على العالم من جديد ومن البوّابة الأميركية بالذات.

وفي الذكرى الخمسين للقاء نيكسون – ماو تسي تونغ (27 كانون الثاني 1972) اتّصل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بوزير خارجية الصين وانغ يي، وجدّدا خلال الاتّصال الالتزام بروح اتفاق شنغهاي الذي صدر عن نيكسون – ماو من دون ذكر اسم أيّ منهما. فُهِم ذلك أنّه دليل على التزام الصين بموقف محايد في الحرب الأوكرانية. وهذا ما تريده واشنطن.

مع ذلك، تغيّرت الصين خلال نصف القرن الماضي، ولم تعد صين الرئيس الحالي شي هي صين الرئيس السابق ماو تسي تونغ. الآن تختلف الأولويّات باختلاف الإمكانيات. فالصين وصلت إلى الجانب الخلفيّ للقمر، وأطلقت محطّة فضائية دائمة، وتسلّحت نوويّاً وبصواريخ عابرة للقارّات، وهي تريد أن تكتمل وحدتها الوطنية باسترجاع تايوان من الحضن الأميركي.

الصين وروسيا

لم تعد الصين تخشى من توسّع روسيا على حسابها في الشمال. لقد رسمت الحدود بين الدولتين، حتى فوق جسر صغير لا يزيد طوله على خمسة أمتار فوق بحيرة تقع بينهما وتفصل بين الدولتين المتراميتَيْ الأطراف.

قبل نصف قرن لم ينجح الرئيس الأميركي نيكسون في جذب الصين إلى تحالف معادٍ للاتحاد السوفيتي، على الرغم من الاشتباكات المسلّحة التي وقعت بين القوات الصينية والسوفياتية في ذلك الوقت.

إقرأ أيضاً: كنائس واشنطن تقضم “كاثوليك” أميركا الجنوبية: القدس الضحية

اليوم لم ينجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حربه على أوكرانيا، ولا في أن يقدّم إلى الرئيس شي نموذجاً جيّداً لاسترجاع تايوان.

لعلّ إطالة أمد الحرب الأوكرانية وتوسّع حلف شمال الأطلسي شمالاً (السويد وفنلندا) يقدّمان للصين درساً من خلال إطلاق يد اليابان في التسلّح كمّاً ونوعاً، وتحويل كوريا الجنوبية إلى ترسانة نووية تحت إشراف القوات الأميركية.

هكذا بعد نصف قرن من المبادرات الدبلوماسية ومن المتغيّرات السياسية، لا تزال صورة العالم المنقسم على نفسه هي هي، ولم تتغيّر إلّا في الشكل.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…