ضدّ “قوارب الموت”: طرابلسيون يعملون في أوستراليا.. أونلاين

مدة القراءة 6 د

ألف فرصة عمل في طرابلس؟ كيف وقد نسيت الدولة اللبنانية منذ زمن بعيد عاصمتها الثانية؟

أمر سورياليّ أن يفكّر رجل أعمال في الاستثمار في طرابلس. فالمدينة الثانية في لبنان طلّقتها الدولة ثلاثاً منذ زمن بعيد، حتّى صارت ريفاً كبيراً يجمع في ثناياه أشكال المعاناة والحرمان كلّها، التي تغلّف أرياف لبنان منذ تأسيسه قبل 80 عاماً.

إلّا أنّ لكلّ قاعدة استثناء. وطرابلس الفيحاء التي نسيتها الدولة منذ قيامها، لم ينسَها أبناؤها، كلّهم أو ربّما جلّهم.

أمر سورياليّ أن يفكّر رجل أعمال في الاستثمار في طرابلس. فالمدينة الثانية في لبنان طلّقتها الدولة ثلاثاً منذ زمن بعيد، حتّى صارت ريفاً كبيراً يجمع في ثناياه أشكال المعاناة والحرمان كلّها

عكس التيّار

القاعدة الأساسية للاستثمار هي وجود مناخ يحفّز عليه. يتطلّب هذا المناخ استقراراً أمنيّاً واقتصادياً وماليّاً واجتماعياً، لكنّ أيّاً من ذلك غير متوافر في لبنان، بما يجعله أرضاً طاردةً للاستثمارات ورؤوس الأموال. بيد أنّ لكلّ قاعدة استثناء. فهناك من يختطّ لنفسه قواعد اقتصاديّةً خاصّةً به، يختلط فيها الحنين إلى الوطن والمرارة الذاتية المعيشة سابقاً، بالإيمان العميق بقدرات الشباب اللبناني، والرغبة في تقديم فرصة لأبناء المعاناة في هذا الوطن المعذّب.

عماد المصري رجل أعمال وُلد من رحم هذه المعاناة المتناسلة، وعاش فيها صباه وقسطاً من شبابه. قادته الأقدار مثل آلاف الشباب اللبنانيين إلى الاغتراب بحثاً عن فرص العيش الكريم. حطّ رحاله في أستراليا عام 2006. وخلال 18 عاماً من العمل الجادّ والمتواصل، استطاع تأسيس شركة شحن برّيّ بدأت بشاحنة واحدة فقط كان يقودها بنفسه. صارت الشاحنة اثنتين، ثمّ كرّت السبحة، حتّى بات لديه اليوم أسطول من أحدث الشاحنات، وصارت شركته “غولد تايغر” في طليعة الشركات في أستراليا.

وفيما يفرّ اللبنانيّون من وطنهم، بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، قرّر عماد أنْ يسبح عكس التيّار، وأنْ يفتتح فرعاً لشركته في طرابلس تحديداً، لأنّ “الدولة نسيتها منذ زمن بعيد، أفينساها أبناؤها أيضاً؟”.

بغية تجاوز التعقيدات القانونية، نظراً إلى اختلاف النظام الضريبيّ في لبنان عنه في أستراليا، ارتأى المصري إنشاء شركة لبنانيّة تحمل اسم “غولد تايغر للخدمات اللوجستية”، ترتبط بالشركة الأمّ التي تعمل في مجال الشحن البرّيّ والتخزين وتقديم الحلول اللوجستية للشركات التي تحتاج إلى أنماط معيّنة للنقل والتخزين.

تجربة نادرة في طرابلس

هي تجربة فريدة من نوعها. شركة لبنانية ستعمل عن بُعد، في السوق الأسترالية بدايةً، ثمّ في أسواق بلدان أخرى في المستقبل، وسيقوم عملها على ثلاثة أقسام: المحاسبة والبرمجة وخدمة الزبائن. تُعدّ هذه الأقسام لصيقةً بالإدارة، ولذلك يندر وجودها في طرابلس، فالمقرّات الرئيسية للشركات غالباً ما تكون في العاصمة بيروت، أو في ساحل جبل لبنان، وهو ما أدّى إلى حرمان الشباب الطرابلسي من عشرات فرص العمل في هذه الاختصاصات.

في زيارة لمقرّ الشركة في البحصاص، عند المدخل الجنوبي لمدينة طرابلس، يستوقفك مستوى التجهيزات الموجودة فيها: أربع شاشات ولابتوب وباقي اللوازم الكمبيوتريّة أمام كلّ موظّف وموظّفة، وكلّها من أحدث طراز، وشاشات كبيرة على الجدران من أجل عقد الاجتماعات عن بعد، وهناك التقينا بالإداريين الأستراليّين الذين سافروا إلى لبنان لتدريب فريق العمل اللبناني وتجهيزه.

بغية تجاوز التعقيدات القانونية، نظراً إلى اختلاف النظام الضريبيّ في لبنان عنه في أستراليا، ارتأى المصري إنشاء شركة لبنانيّة تحمل اسم “غولد تايغر للخدمات اللوجستية”، ترتبط بالشركة الأمّ

بلدي أَوْلى

يقول عماد المصري في حديث لـ”أساس” إنّه كان دائم التفكير في طريقة يستطيع من خلالها خدمة بلده الأمّ. من هذا المنطلق، قرّر افتتاح شركة في طرابلس “لتساعد في التخفيف من الهجرة، والحدّ من ظاهرة قوارب الموت، عبر توفير فرص عمل لأبناء الشمال المهمل من الدولة على كلّ الصعد الإنمائية والخدماتية”.

ويضيف: “أنا على يقين بأنّ لدينا طاقات مهمّةً جداً”. ويضرب المثل بنفسه، مبيّناً كيف اضطرّ للهجرة إلى أستراليا التي فتحت له أبوابها: “اللبناني قادر، أنا بدأت من الصفر، واليوم لديّ أسطول من الشاحنات، وشركات في مجالات أخرى مثل التعليم والبناء. اللبناني أثبت أنّه ناجح في الخارج، فلماذا لا ينجح في بلده؟ لأنّه يفتقر إلى الإمكانات التي تساعده على ذلك”.

لكن ماذا عن سبب اختيار هذا التوقيت؟

يكشف المصري لـ”أساس” عن خطط استثمارية لتوسيع أعمال الشركة خارج أستراليا، ومن ضمنها إدارة بعض أعمالها من الفيليبين: “لكنّني في قرارة نفسي تساءلت: ألا يمكن أنْ ندير هذا العمل من لبنان؟ فبلدي وأبناؤه أولى”.

يؤمن الرجل بأنّ عملاً بهذا الحجم سيساعد في بناء اقتصاد متطوّر، خاصّةً في عاصمة الشمال: “أجرينا بعض الدراسات للوقوف على سُبل النجاح، ولا أُخفي أنّني وجدت الكثير من العراقيل. وكلما فاتحت أحداً بالفكرة كان يسخر منّي. لكنّني أثق بأنّ كنتُ واثقاً من نجاح المشروع.

1,000 وظيفة!

يحلم المصري بتوفير نحو 1,000 وظيفة على مستوى الشمال، بالاشتراك مع بعض الأصدقاء في الجالية اللبنانية في أستراليا.

يكشف رجل الأعمال، الذي يرأس في الوقت نفسه الهيئة الإدارية لكليّة الرسالة في أستراليا التي تضمّ 1,200 تلميذ/ة، عن مشروع قيد الدراسة في قطاع التعليم. سيتيح هذا المشروع فرص عمل لأساتذة اللغة العربية بصفر كلفة، من خلال إعطاء دروس لغة عربية لأبناء الجالية اللبنانية في أستراليا “أونلاين”. وفي ذلك إفادة مزدوجة: للمعلّمين في زيادة مداخليهم المتهاوية، وللمغتربين في تعليم أبنائهم لغة آبائهم وأجدادهم.

يكشف المدير التنفيذي فادي المصري أنّ هذه الشركة هي الخطوة الأولى في مشروع ضخم، فـ”نحن بحاجة إلى محاسبة، وإلى تطوير البرامج الإلكترونية في الشركة. بدأنا بـ32 موظّفاً وموظّفةً نعكف على تدريبهم للتأقلم مع النظام المتّبع في أستراليا”.

ويضيف في حديث لـ”أساس” أنّ “هدفنا تحريك العجلة الاقتصادية في الشمال، وتوفير وظائف للشباب والكفاءات تغنيهم عن الهجرة وتسمح لهم بالعمل في بلدهم ووسط عائلاتهم والحصول على مداخيل تقارب تلك التي يهاجرون من أجلها”. ويلفت إلى اختيار الموظّفين من طرابلس ومختلف المناطق الشمالية، مثل عكّار والضنّية وبشرّي، وأن لا مشكلة في بدلات النقل لأنّ “الرواتب وجميع تعاملات الشركة بالدولار”.

لا أهداف سياسيّة

ينفي ختاماً بحزم وجود أيّ أهداف سياسية خفيّة له. فلو كان لديه مشروع سياسي لكان ترشّح في الانتخابات النيابية قبل أشهر. ويكشف في الوقت عينه أنّه عضو في الهيئة الاستشارية لـ”جمعية أبناء طرابلس والميناء”، التي تسعى إلى توفير مشاريع اقتصادية لطرابلس.

إقرأ أيضاً: في طرابلس.. لكلّ “بِركة” قصّة وتاريخ

يؤكّد أنّه يسعى جاهداً إلى التخلّص من نظام الإعالة وكراتين الإعاشة، واضعاً نفسه في خدمة أيّ شخص يريد تأسيس عمل في لبنان: “أنا حريص جدّاً على مصداقيّتي مع الناس، فهي رأسمالي الأساسي، ودخولي عالم السياسة سيفقدني بعضاً منها بالتأكيد. أنا على مسافة واحدة من الجميع، وعلى علاقة طيّبة بالأطراف السياسية كلّها”.

فادي المصري يختم بدعوة: رجال الأعمال في بلاد الانتشار أن يحذوا حذوه، بما يسهم في إيجاد المزيد من فرص العمل.

مواضيع ذات صلة

أميركا مطمئنّة.. ونتنياهو “يسرق الوقت”

عاد الموفد الأميركي آموس هوكستين من زيارته إلى المنطقة، ووصل إلى العاصمة الاميركية أمس. وقبل أن يصل إلى واشنطن كان قد طمأن عين التينة إلى…

مبعوث ترامب إلى الشّرق الأوسط: معجب “بروحانية” نتنياهو..

تشبه الشّخصيّات التي رشّحها الرّئيس الأميركيّ المُنتخب دونالد ترامب شخصيّته الجدليّة. فهو كما فاجأ المراقبين يومَ فازَ في انتخابات 2016، وبفوزه الكبير في انتخابات 2022،…

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…