مات الحاج توفيق الحوري.. رحيل لا يعرف النسيان

مدة القراءة 9 د

رحل “الحاج”، فقدت بيروت رجلاً من رجالاتها الكبار. مات توفيق الحوري الذي يناديه البيروتيون بـ”الحاج”، تاركاً خلفه سيرة عطرة من النضال في الساحات والخنادق إلى بناء المؤسسات الاكاديمية والاجتماعية.

يرحل لتبقى جامعة بيروت العربية ذكرى جميلة له كصدقة جارية لا ينقطع ثوابها. كل حجر من مبانيها يعبق بعطر مسؤوليته عن المجتمع. قدر الرجال الكبار أن رحيلهم لا علاقة له بالنسيان، يبقون بأعمالهم ومآثرهم التي لا تعرف الغروب ولا الفقدان.

“أساس” تتقدم من عائلتي الراحل الكبير الصغرى والكبرى، ومن البيروتيين بكل العزاء وتعيد نشر ما كتبه الكاتب فاروق عيتاني في “أساس” عن الراحل الكبير في 12 أيار 2020.

رحل “الحاج”، فقدت بيروت رجلاً من رجالاتها الكبار. مات توفيق الحوري الذي يناديه البيروتيون بـ”الحاج”، تاركاً خلفه سيرة عطرة من النضال في الساحات والخنادق إلى بناء المؤسسات الاكاديمية والاجتماعية

هو شاب بيروتي، ولد قبل ولادة لبنان في 1933، وفي عامه الـ21 أطلق حركة “الطوابير”، عام 1954، التي نظّمت تشكيلات سريّة عسكرية من اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان، وكان هدفها استئناف الجهاد ضد العدوّ الإسرائيلي الذي احتلّ فلسطين وأعلن دولة إسرائيل في 1948.

كان نادراً ذلك الوعي السياسي المبكّر جداً. لكن لم يكن غريباً على توفيق راشد توفيق الحوري، المولود في الطيونة – بيروت، والذي تلقّى دروسه الأولى في المقاصد – الحرش، والتحق بالجامعة الأميركية في شارع بلس، ليسافر بعدها إلى بريطانيا وعمره 17 ربيعاً، لدراسة الاقتصاد، قبل أن ينتقل إلى اختصاص “الرادار والمحاسبة الميكانيكية – الكمبيوتر”.

يروي توفيق راشد الحوري، الذي اعتاد مقرّبون منه على الإشارة إليه أو مخاطبته بلقب “الحاج”، أنّ الله تعالى وفّقه من بيروت بتزويده بعنوان سيدة ليقيم عندها وقصدها فور وصوله إلى بريطانيا، ليكتشف أنّها ألمانية الأصل، عاشت في لندن منذ منتصف الثلاثينيات، وتعمل في مركز ثقافي ألماني، وقد توفى زوجها في مركز لاعتقال الألمان في بريطانيا عشية إعلان الحرب ضدّ بلادها الأم. ويضيف لي: كانت أماً ثانية لي. تهتمّ بغسيل ملابسي، وكيّها، والطبخ. سألت الحاج حينها: هل كانت التوصية من مفتي عموم فلسطين الحاج امين الحسيني؟

توفيق الشاب قبل أن يترك لندن ساهم في تأسيس “الاتحاد العالمي للطلاب المسلمين” بمشاركة طلاب من باكستان والملايو وأندونيسيا وبلاد عربية أخرى، منها فلسطين والأردن وسوريا والعراق.

الحاج قبل ابو عمار وابو أياد

فور عودته إلى لبنان، أطلق “الطوابير”. لم  يذكر لي “الحاج” عن رعاية سماحة مفتي عموم فلسطين الحاج أمين الحسيني الطوابير، ولا من كان يقوم بتدريبهم. لكنّ المهندس محمد علي عضام، وهو من عرّفني إلى الحاج لدى التحاقي بالجامعة في عامها الدراسي 1966 – 1967، طلب مني يوماً، ربما في بدايات 1973، الذهاب معه بناءً على طلب “الحاج”، لزيارة رجل متقدّم بالعمر على فراش الموت موجود في المستشفى الألماني.. لأعرف عند وصولي إلى سريره أنّني امام واحد من الضباط الألبان ممن غادروا ألبانيا، قبيل دخول السوفيات، هو ومجموعات ألبانية، وانتشروا ملتحقين في سوريا ولبنان وفلسطين كمقاتلين في التشكيلات العربية، بين “جيش الإنقاذ”، بقيادة الضابط السابق في الجيش العثماني فوزي القاوقجي، وبين تشكيلات قتالية ثانية، بحسب توزيع المفتي الحسيني لهم. كانوا جميعهم متطوّعين ملتحقين بالحاج أمين الحسيني. وطبعاً، هنا أدركت تركيبة “الطوابير” التي لم يعد الحاج لذكرها كعادته في اقتصار كلامه على الغد لا على ما فات.

كلّ هذا الحراك لفلسطين وصلت أسماعه إلى الكويت حيث كان يعمل هناك مهندسان فلسطيبنيان، الأول سيُعرف فيما بعد باسم “الأخ أبو عمار” والثاني باسم “الأخ أبو جهاد”.

ولئن كان الباحث الفرنسي البروفسير برنارد روجيه يصل في تتبعه لصعود الإسلام الجهادي “المتشدد” حسب رأيه، يصل إلى اللحظة التأسيسية الحاسمة حين اكتشف أنّ اسمه توفيق الحوري، فقد اختار عبارة خاصة بالحاج ليجعلها اسم كتابه المرجع، والعبارة هي: “جهاد يومي”.

نحن أمام تركيبة تختلف عن التركيبات السنّية التي شاركت مع فيصل الأول وقاتلت في ميسلون، فهذه تركيبة عيتانية وصلحية من صيدا، وكانت مع المرحوم سامي الصلح. بينما التركيبة التي التفت حول آل سلام فبقيت بعيدة عن التركيبتين السابقتين

شبيه بيروت

توفيق الحوري هو ابن راشد توفيق الحوري (1896-1973)، ثالث ثلاثة أقاموا مؤسسة رائدة في منطقة الرمول، التي تُعرف اليوم باسم الطريق الجديدة، وعُرفت قديماً على أنّها من ضمن أوقاف الإمام الأوزاعي قبل أن توزّعها فرنسا هدايا على أقلياتها؟

وتوفيق هو سليل عائلة ذات تاريخ مميّز في نهايات الدولة العثمانية. فراشد توفيق الحوري هو الابن البكر لتوفيق الحوري مدير عام مالية مرفأ بيروت العثمانية. وثانيهم جميل الرواس (1888-1979)، وثالثهم الصيدلي مصطفى الشافعي (1890-1962).

وُلد ثلاثتهم في باطن بيروت العثمانية المحروسة في نهاية القرن 19، وعاشوا متجاورين معاً على بعد أمتار من السراي العثمانية. شهدوا معاً القصف الإيطالي لباطن بيروت ردّاً على كونها مركز تجميع المجاهدين لمعارك الجهاد الليبي، ومركز تدريب وإرسال إبراهيم الورداني لتصفية وزير الداخلية المصرية سعد زغلول المعيّن من قبل رومل لقطع الحدود بين مصر وليبيا على المجاهدين (قتل في العملية بطرس غالي باشا قاضي محكمة مجزرة دنشواي). وما تلا عملية القصف من اقتحام البيارتة للسراي واستيلائهم على السلاح وانتشارهم أياماً وليالي على شواطىء بيروت لمواجهة إنزال إيطالي.

بتوصيف ثانٍ، كان باطن بيروت حركة تنبض سياسياً، وحراكاً مستداماً، ومركزاً للفنون والمسارح، وتوزّعت على المدينة مقرّات الحركات السياسية المختلفة، ومنها كانت تصل أخبار البرق للصحف، وكان فيها شركة كهرباء وترامواي للأطراف، وكانت تتابع أحداث الدولة.

أهم ما يجمع بين الثلاثة أنهم لم يلتحقوا بحركة لورانس المعروفة باسم “حركة الشريف حسين”. والأرجح أنّ النقيب راشد الحوري قد انضمّ في دمشق إلى “جمعية العهد السرية”، وهي الجمعية التي تألف جلّها من الضباط العراقيين من الموصل ومنطقة واسط. وكانت تمسك برئاسة أركان الجيش الرابع

كانوا في الزمان والمكان والعمر المناسب لتكوينهم. يعرف بعضهم بعضاً، ميسوري العيش، سليمين من الأمراض، وتلقّوا علوماً عالية. فمصطفى الشافعي صيدلي خرّيج الآستانة حيث كانت تجري امتحانات “الكولوكيوم” لكلّ أطّباء  السلطنة. راشد الحوري لحماسته التحق في عمر 16 بالمدرسة الحربية في دمشق بعدما أتمّ دراسته في المدرسة السلطانية ببيروت. (الجيش الرابع العثماني كان جيشاً واحداً لولايتي بيروت والشام لتطويق المتصرفية). وتخرّج منها ضابطا عشية إعلان الدولة التعبئة العامة (“سفر برلك” بالتركية) وتخصّص بالمدفعية. جميل الروّاس كان مسؤول التصنيع الحربي للجيش الرابع، وأول من استقدم من ألمانيا مصعناً لصناعة وبيع الثلج (أسماه العامّة: شريك المي) …

كان باطن بيروت حركة تنبض سياسياً، وحراكاً مستداماً، ومركزاً للفنون والمسارح، وتوزّعت على المدينة مقرّات الحركات السياسية المختلفة، ومنها كانت تصل أخبار البرق للصحف، وكان فيها شركة كهرباء وترامواي للأطراف، وكانت تتابع أحداث الدولة

عروبة الحوري

وأهم ما يجمع بين الثلاثة أنهم لم يلتحقوا بحركة لورانس المعروفة باسم “حركة الشريف حسين”. والأرجح أنّ النقيب راشد الحوري قد انضمّ في دمشق إلى “جمعية العهد السرية”، وهي الجمعية التي تألف جلّها من الضباط العراقيين من الموصل ومنطقة واسط. وكانت تمسك برئاسة أركان الجيش الرابع. ومن هنا يمكن فهم اختيارهم لراشد الحوري للقتال في شمالي العراق طيلة فترة الحرب، كما من المفهوم موقفهم المعادي لنوري السعيد وشريكه أبو جعفر التمن، كونهما على علاقة وثيقة بلورانس على عكس عزيز المصري عضو “جمعية العهد” الذي استبسل في الدفاع عن مكّة إلى نهاية الحرب.

اصالة ومعاصرة أبناء المدن السنيّة

نحن إذن أمام مجموعة عسكرية عربية إسلامية، لم تخترقها القوى الخارجية وكانت متصلة بالحداثة الغربية (ألمانيا) وتعرف ما تريد منها. إنّها اصالة ومعاصرة أبناء المدن السنيّة في الولايات العربية العثمانية الشمالية التي فهمت الخطر البريطاني على فلسطين والأطماع الفرنسية في دعم الأقليات، فتصدّت للهجمة الإمبريالية الاستعمارية (الغارة المعاصرة الأولى على العالم الإسلامي)، ولم تنبهر بالغرب فتتبنّى الفردانية والنيوليبرالية (الغارة الثانية على العالم الإسلامي).

وعمر فرّوخ حفيد مسؤول كبير قنّاصي القنصل الألماني ببيروت، وخرّيج ألمانيا، وصاحب الكتاب الأكثر شهرة وانتشاراً وترجمة بلغات آسيا الوسطى: “التبشير والاستعمار”، لا غرابة أن يكون ملتحقاً مع هذه المجموعة بعد ظهورها، وناقلاً سكنه من رأس بيروت الى شارع الحوري مقابل بيت راشد الحوري.

يحدّثني الحاج توفيق أنّ أباه أسره البريطانيون إلى الشرق من الموصل، وتمّ نقله إلى الهند ومن هناك إلى معتقل “الهسكاب” في مصر، ليعود في نهاية الحرب (أفترض هنا أنّ النقيب ديكسون في المخابرات البريطانية وصاحب بيت ديكسون في الكويت فيما بعد، وهو ابن القنصل البريطاني في بيروت، هو من حقّق مع راشد الحوري، وهو من فتح الطريق للبساتنة؟؟ إلى الكويت).

إقرأ أيضاً: رحل حسين الحسيني ويستمرّ اتّفاق الطائف..

وأيضاً انتقل للسكن في الرمول جميل الرواس. وكان مصطفى الشافعي قبل الحرب صاحب صيديلة في الباشورة، وأثناء الحرب مديراً للمستشفى العسكري للجيش الرابع ببيروت (“إست خانة”، لفظة تركية تعني “دار المريض”) ومكانه في برج أبي حيدر حيث كانت “إذاعة صوت الوطن” التابعة لـ”جمعية المقاصد” في ثمانينيات القرن الماضي. واختار  الشافعي أن يسكن على مسافة واحدة بين رفيقيه راشد وجميل.

نحن أمام تركيبة تختلف عن التركيبات السنّية التي شاركت مع فيصل الأول وقاتلت في ميسلون، فهذه تركيبة عيتانية وصلحية من صيدا، وكانت مع المرحوم سامي الصلح. بينما التركيبة التي التفت حول آل سلام فبقيت بعيدة عن التركيبتين السابقتين.

مواضيع ذات صلة

حكاية دقدوق: من السّجن في العراق إلى الاغتيال في دمشق! (1/2)

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…