لم يتعرّف العراقيون على الدولار الأميركي إلا في تسعينيّات القرن الماضي. لقد مرّ عقد الثمانينيات عليهم وهم ممنوعون من السفر. لم تكن لديهم حاجة إلى الدولار. أمّا في السبعينيات فقد كان السفر متاحاً، غير أنّ التحويلات كانت مقيّدة. وحين انهارت العملة العراقية منتصف التسعينيات قيل لهم إنّ سعر الصرف مقابل الدولار هو السبب. ومنذ ذلك اليوم صار الدولار هو العقدة التي تتحكّم بمستواهم المعيشي ولقمتهم اليوميّة.
الدولار الحاكم والحَكَم
“الدولار” هو عنوان حرب خاضها العراقيون من طرف واحد إلى أن حلّت “نقمة الاحتلال” الأميركي عام 2003 فصار الدولار أشبه بعملة محلّية يُقاس عليها مستوى الشخص وقيمة دخله، فتراجعت درجة موظّفي الدولة على سلّم المكانة الاجتماعية فيما صعدت مكانة أناس كانوا في حقيقتهم عاطلين عن العمل غير أنّ النظام السياسي وضعهم في أعلى درجات ذلك السلّم بعدما منحهم تعويضات بسبب “خدماتهم الجهادية” وخصّص لهم رواتب لم يكن يحصلون على عُشرها قبل الاحتلال على الرغم من أنّ معظمهم لا يقيم في العراق ولا يزوره إلا من أجل تأكيد بقائه على قيد الحياة.
لم يتعرّف العراقيون على الدولار الأميركي إلا في تسعينيّات القرن الماضي. لقد مرّ عقد الثمانينيات عليهم وهم ممنوعون من السفر. لم تكن لديهم حاجة إلى الدولار
كان دخول الدولار الدورة الاقتصادية في العراق إيذاناً ببدء ظاهرة التمييز بين نوعين من العراقيين. يقف الحزبيون، وفي مقدَّمهم أعضاء حزب الدعوة، في طرف، فيما يقف في الطرف المقابل أبناء الداخل العراقي ممّن صاروا يُحسبون على النظام السابق مع وجود استثناءات تمتّع بها بعض الشيعة ممّن لم يُشملوا بقانون اجتثاث البعث على الرغم من أنّهم كانوا أكثر بعثيّة من الآخرين الذين حُرموا رواتبهم التقاعدية أسوة بشهداء الحرب العراقية الإيرانية الذين قُطعت الرواتب عن ذويهم الذين لا يملكون مُعيلاً.
تهريب الدولار
على مستوى موازٍ نشط عراقيّو الأحزاب في تأسيس بنوك أهلية صارت تملك أسبقية في الحصول على الدولار في سوق بيع العملة التي أقامها البنك المركزي العراقي، حيث يُباع الدولار بالسعر الرسمي الذي هو أقلّ من سعره في السوق. ولقد حدث أن أغلقت بعض تلك البنوك أبوابها عند حصولها على المبلغ المطلوب في ظلّ غياب مؤسّسات الرقابة وعجز مؤسّسة النزاهة عن تنفيذ قرارات الملاحقة والقبض على الهاربين. في الوقت نفسه تمّ الكشف عن بنوك لم يكن لها وجود على أرض الواقع على الرغم من أنّها كانت تحصل على حصّتها من العملة الصعبة. وكان الغطاء الحزبي قد لعب دوراً ضاغطاً على القضاء من أجل تمرير تلك المخالفات التي هي في حقيقتها واجهة لتهريب مبرمج للعملة إلى إيران وميليشياتها في سورية ولبنان واليمن.
الدولار نقمة على العراقيّين ونعمة على الإيرانيّين
كان الدولار الذي يقضّ مضاجع العراقيين هو مسألة موت أو حياة بالنسبة إلى إيران التي فُرض عليها حصار اقتصادي أميركي لم تكن الاستثناءات فيه إلا وسيلة لمنع انهيار النظام الإيراني من الداخل. غير أنّ ما حدث أنّ المليارات التي كانت تُنهب من الشعب العراقي كانت سبباً في حماية الاقتصاد الإيراني واستمرار الحرس الثوري في رعاية وتمويل مشروعه الإرهابي في المنطقة.
قبل أن يصل الوفد الأميركي إلى بغداد كانت وزارة الخزانة الأميركية قد أوقفت تحويلات عراقية تحوم حولها الشبهات
ما لا يدركه البعض أنّ انهيار سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار هو جزء من حرب أميركية إيرانية. وكان الوفد الأميركي الذي زار بغداد أخيراً قد وضع على طاولة العراقيين شروطه التي تمثّل وجهة النظر الأميركية الجديدة التي من شأن تطبيقها أن ينهي الجزء المعلن من نهب العملة الصعبة من البنك المركزي وتهريبها إلى إيران ولبنان بطريقة منتظمة وأمام أعين الخبراء.
قبل أن يصل الوفد الأميركي إلى بغداد كانت وزارة الخزانة الأميركية قد أوقفت تحويلات عراقية تحوم حولها الشبهات. ولأنّ الحكومة العراقية قد أدركت أنّ الوثائق تشكّل عنصر إدانة لها ولم تناقش القرار الأميركي بل لجأت إلى رفع سعر صرف الدولار مقابل الدينار العراقي بغية الضغط على الشعب العراقي من خلال ارتفاع أسعار الموادّ الغذائية. أرادت الحكومة العراقية من خلال هذه الحيلة تقديم الشعب العراقي باعتباره ضحيّة للإجراء الأميركي القاضي بإيقاف التحويلات.
إقرأ أيضاً: كمين ليليّ في وطن لا نهار فيه
ليس من المستبعد أن تكون إيران هي من أوعزت إلى الحكومة العراقية بالقيام بذلك الإجراء الذي لم يكن ليحدث في دولة أعلنت حكومتها قبل شهرين أنّ احتياطات بنكها المركزي تبلغ أكثر من سبعين مليار دولار. إذاً القرار سياسي وليس اقتصادياً. وهو أيضاً قرار إيراني وليس عراقياً. فبعدما استعادت الأحزاب هيمنته على السلطة العراقية لم يعد في الإمكان الحديث إلا عن ثروة عراقية تستعملها إيران في تمويل مشروعها الإرهابي في المنطقة، وهو ما يضع الشعب العراقي في قلب حرب يدفع تكلفتها من غير أن يكون له ذنب فيها.