تتغيّر دول أميركا الجنوبية. وهذا التغيير يعني لبنان تحديداً، ويعني الدول العربية الأخرى لوجود جاليات واسعة منتشرة في هذه الدول.
كانت الأكثرية الساحقة من شعوب أميركا الجنوبية تؤمن بالكاثوليكية عقيدة لها. وكان الفاتيكان مرجعيّتها الروحية الوحيدة. ومنذ المجمع الثاني (1965) وهو يدعو ولم يزل يدعو إلى الانفتاح على الإسلام. وقد شكّل لقاء الأخوّة الإنسانية في أبو ظبي بين البابا فرنسيس وإمام الأزهر الشيخ أحمد الطيب دفعة قوية في هذا الاتّجاه.
إلّا أنّ ما يحدث في هذه الدول من تغيير ديني يدفع في الاتجاه المعاكس. وهو الأمر الذي يتطلّب التحسّب للمتغيّرات. فالكنائس الإنجيلية الأميركية المتطرّفة تتوغّل في هذه الدول. والخزّان الكاثوليكي (وهو الوصف الذي كانت أميركا الجنوبية تُعرَف به) بدأ ينضب. يعني ذلك تراجع تأثير الفاتيكان على سياسات هذه الدول، مقابل تنامي تأثير الكنائس الإنجيلية الأميركية.
تكفي الإشارة إلى أنّ هذه الكنائس وصفت البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني، أحد أكثر البابوات انفتاحاً على الإسلام، بأنّه “المسيح الدجّال”. هذا ما يفسّر موافقة بعض هذه الدول على القرار الأميركي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل. فبعدما كانت تلتزم بالموقف الفاتيكاني من القدس ومن القضية الفلسطينية، أصبحت الآن تعكس التزاماً بالقرار الأميركي.
التغيير في إطار المسيحية شأن عَقَديّ مسيحيّ خاصّ. غير أنّ الانعكاسات السياسية لهذا التغيير على العلاقات مع العالم العربي هو الذي يعنينا
تحوّلات دينيّة
انخفض عدد كاثوليك أميركا الجنوبية من أكثر من 95 في المئة في القرن الماضي إلى 69 في المئة فقط في الوقت الحاضر. وارتفع عدد الذين تحوّلوا إلى الكنائس الإنجيلية (وخاصة كنيسة العنصرة Pentecostal) حتى وصلت نسبتهم في دول أميركا الوسطى إلى 40 في المئة. ووصلت النسبة في البرازيل إلى 26 في المئة. والرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو هو واحد منهم، وقد تمّ “تعميده” أو إعادة تعميده في نهر الأردن على يد واحد من قساوسة الكنيسة الإنجيلية العنصرية. وفي الانتخابات العامّة حصل على 22 مليون صوت إنجيلي. وعيّن في حكومته قسّيساً من هذه الكنيسة وزيراً لشؤون المرأة والعائلة.
يوجد في البرلمان البرازيلي 195 عضواً (من أصل مجموع الأعضاء البالغ عددهم 513) ينتمون إلى هذه الكنيسة الإنجيلية. وهم يهيمنون على الحزب الجمهوري الذي يتزعّمه أحد القساوسة ويدعى أديرماسيدور، وهو من كبار أثرياء البرازيل.
ليست القضية قضية حرّية دينية. فتلك مسألة أخرى. ففي عام 1858 انفجرت في المكسيك ثورة من أجل الحرّية الدينية استمرّت ثلاث سنوات وأشعل فتيلها رفض تحويل ممتلكات الكنيسة الكاثوليكية إلى الدولة. ما يحدث الآن هو أمر آخر يتعلّق بتوسّع الكنائس الأميركية الإنجيلية التي تتمتّع بإمكانات ماليّة وإعلامية، على حساب الكنيسة الكاثوليكية.
انخفض عدد كاثوليك أميركا الجنوبية من أكثر من 95 في المئة في القرن الماضي إلى 69 في المئة فقط في الوقت الحاضر
تغيير دينيّ يتشابك مع السياسة والمال
التغيير في إطار المسيحية شأن عَقَديّ مسيحيّ خاصّ. غير أنّ الانعكاسات السياسية لهذا التغيير على العلاقات مع العالم العربي هو الذي يعنينا. فما إن أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب موقفه من القدس، حتى بادرت بعض دول أميركا الوسطى (التي تحوّلت إلى الإنجيلية العنصرية) إلى اللحاق به، مع أنّه ليس للولايات المتحدة تأثير مباشر سياسي أو اقتصادي على هذه الدول، بل على العكس من ذلك تكره شعوب هذه الدول الولايات المتحدة لأنّها تمنع الهجرة إليها.
لقد تحوّل السكان الأصليون في دول أميركا الجنوبية إلى تربة خصبة لنموّ الكنائس الإنجيلية المتطرّفة على حساب الكنيسة الكاثوليكية التي يمثّلها البابا فرنسيس الذي يتمتّع باحترام كبير في العالم الإسلامي. ويعود السبب إلى أنّ هؤلاء يشكون من الإهمال والتهميش المتعمَّدَيْن، فتعمل الكنائس الأميركية على جذبهم إليها بالإغراءات المادّية التي تعجز عن تقديمها لهم الكنيسة الوطنية الكاثوليكية. ومن شأن ذلك أن يؤدّي إلى مزيد من انتشار التسييس الديني على حساب الإيمان الكاثوليكي كما يقدّمه البابا فرنسيس، ولا بدّ من توقّع المزيد من التغيير في المواقف السياسية لدول أميركا الجنوبية من قضايا الشرق الأوسط. أمّا حجم هذا التغيير فيمكن تحديده في ضوء المسافة بين مواقف الفاتيكان (البابا فرنسيس تحديداً) ومواقف الكنيسة الإنجيلية المتطرّفة التي تقول بالتفسير الحرفيّ للكتاب المقدّس (الإنجيل والتوراة)، والتي تلتزم الدفاع عن إسرائيل في ضوء هذا التفسير.
إقرأ أيضاً: فلسطين: الرهان على “ضمير” اليهود؟
الخطورة على الشرق الأوسط
منذ العشرينيات من القرن الماضي لم تعرف دول أميركا اللاتينية صراعاً دينياً. كانت تنام هادئة مطمئنّة على المخدّة الكاثوليكية. الآن تغيّر الوضع. فالمجتمعات في هذه الدول أصبحت متنوّعة. وعلى الرغم من أنّ التنوّع هو داخل المسيحية، إلا أنّه تنوّع تنافسي شديد. ونظراً إلى ربط الكنائس الإنجيلية الأميركية المتطرّفة الدين بالسياسة، ونظراً إلى اعتماد هذه الكنائس مفاهيم دينية تربط الإيمان بالعودة الثانية للمسيح بإسرائيل، يأخذ هذا التنافس بعداً سياسياً ينعكس على الشرق الأوسط وعلى علاقاته مع الدول الأميركية. من هنا خطورة التغيير الذي يحدث وخطورة انعكاساته المحتملة.