الصعود إلى بكركي يسبقه اعتقاد أنّ سيّد الصرح لديه ما يقوله جواباً على أسئلة زوّاره انطلاقاً من اعتباره الشخصية الأكثر متابعة للشأن العامّ ليس على مستوى المرجعيات الروحية فحسب، بل وعلى مستوى المسؤولين قاطبة. فهو اليوم قبلة الأنظار في ما يتعلّق بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، مع ما يعنيه ذلك من كونه في قلب الحركة الداخلية والخارجية على هذا الصعيد.
هكذا كان الشعور الذي رافق الوفد المشترك لـ”سيدة الجبل” و”مجلس رفع الاحتلال الإيراني عن لبنان” قبل أن يستقبله البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي. لكنّ المفاجأة كانت في موقف رأس الكنيسة المارونية من المطالب التي حملها الوفد، سواء تلك التي تلاها النائب السابق مصطفى علّوش باسم المجلس وخلاصتها “أنّنا واثقون بأنّ هذا الصرح سيستعيد دوره الجامع… لتأسيس مقاومة للمشروع الذي يلغي لبنان”، أو تلك التي عرضها النائب السابق فارس سعيد في مذكّرة “سيدة الجبل” والتي تضمّنت تمنّياً على الراعي أن “يحمل قضية لبنان إلى دوائر القرار العربية والدولية وطلب دعم الأصدقاء في كلّ أنحاء العالم من أجل مساعدتنا في تنفيذ الدستور والطائف”.
أين كانت المفاجأة؟ البطريرك، وبعدما تسلّم الوثائق من رئيسَيْ الوفد المشترك، خاطب الحضور: “ما تطرحه المذكّرات هو خريطة الطريق، فكيف يكون التنفيذ؟”، فسارع علّوش إلى الجواب انطلاقاً من استحقاق انتخابات الرئاسة الأولى العالق في عنق الزجاجة، داعياً بكركي إلى “عدم الوقوع في فخّ التوافق” لأنّه سيُنتج عهداً سيكون استمراراً لعهد عون. وقال إنّ “حزب الله قادر على أن يجمع 65 صوتاً لمرشّحه وربّما أكثر، لكنّه يريد استدراج الجميع إلى التوافق على مرشّح سيكون حتماً على غرار العهد السابق منسجماً مع الحزب مع ما يعنيه ذلك من استمرار الأوضاع التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه”.
بدوره تخوّف سعيد من “تدهور أمنيّ يفضي إلى ظروف تماثل 7 أيار من أجل فرض خيارات لا تمثّل مصالح لبنان”.
بدا البطريرك وكأنّه يريد الإشارة إلى عمق العلاقات بين المكوّنات اللبنانية الذي يستدعي تجاوز الانقسامات الطائفية والمذهبية التي تشهد ازدهاراً في الكيان اللبناني حالياً
وضع البطريرك المذكّرات على الطاولة إلى جانبه، وبعد فترة تأمّل بدأ مداخلته التي لمّح فيها إلى مسؤولية داخلية يجب تحمّلها، ولا سيّما على الصعيد المسيحي عموماً، والماروني خصوصاً: “في الخارج دعوة إلى أن نوحّد الموقف، وصرنا نشحذ ليس المساعدات وإنّما الموقف المؤازر. وإذا ما اتّخذنا موقفاً يرضى فريق ويزعل آخر”.
وسأل عن موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري من مسار الاستحقاق الرئاسي، فقيل له إنّه مساير لـ”حزب الله”، فعلّق قائلاً: “إذاً نحن تحت سيطرة سياسية وعسكرية معاً”.
أنصت البطريرك مليّاً إلى أحد الحضور يروي ما ردّده أخيراً شارل كميل الشدياق حفيد الأديب الكبير أحمد فارس الشدياق عن أصل عبارة “مجد لبنان أُعطي لك” التي تتصدّر الرايات في الصرح البطريركي. يَرِد في هذه الرواية أنّ الأديب الشدياق الذي تبوّأ منصباً مهمّاً في إسطنبول عاصمة السلطنة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، استقبل نسيبه المطران بولس مسعد الذي وصل إلى عاصمة السلطنة آتياً من جبل لبنان الذي صار خاضعاً لنظام المتصرّفية. وكان الشدياق قد رتّب لنسيبه لقاء مع السلطان عبد العزيز. وخلال تبادل الأحاديث طلب المطران مسعد من السلطان أن يوجّه تعليمات بأن تتمّ معاملة الشيعة في بلاده بطريقة أفضل خلال تأدية شبّانهم الخدمة الإجبارية في الجيش بدلاً من الخشونة التي يتعرّضون لها. وكان الرعايا المسيحيون في ذلك الزمن معفيّين من أداء هذه الخدمة. أبدى السلطان اهتماماً بما يطلبه ضيفه المسيحي من أجل طائفة أخرى، وعندئذ أطلق عبارة: “مجد لبنان أُعطي لك”.
إقرأ أيضاً: بكركي تفتح أوراق ميقاتي.. ما هكذا كان الاتّفاق
بدا البطريرك بعد سماعه هذه الرواية وكأنّه يريد الإشارة إلى عمق العلاقات بين المكوّنات اللبنانية الذي يستدعي تجاوز الانقسامات الطائفية والمذهبية التي تشهد ازدهاراً في الكيان اللبناني حالياً، وعندما اقترح سعيد أن يكون الوفد وما يمثّل ضمن “لجنة عتالة سياسية” تتابع الملفّات مع البطريرك وتؤازره، وافق على الفور.