اليمين واليسار متّفقان على تطيير الودائع

مدة القراءة 7 د

قد يكون اقتراح قانون “إعادة التوازن للانتظام المالي” الذي تناقشه لجنة المال والموازنة النيابية أفضل المحاولات للخروج بنصّ تقنيّ معقول لمعالجة ما يسمّى “الفجوة الماليّة”، لكنّ توزيع خسائر الأزمة، وبالأحرى توزيع أرباحها، ليس مسألة تقنيّة، بل هو في عمق الاقتصاد السياسي الذي تحكمه موازين القوى المحليّة.

قدّم النائبان جورج بوشكيان وأحمد رستم اقتراح القانون هذا، والشائع أنّ من صاغه ليس إلا فريق رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ونائبه سعادة الشامي بمعاونة استشارية من خبراء صندوق النقد الدولي. وقد أتى هذا الاقتراح بجديد على المستوى التقني تمثّل في تقديمه إطاراً نظرياً لمعالجة لبّ الأزمة النقدية- المصرفية، وهو تعثّر مصرف لبنان. ويقوم هذا الإطار على ركنين أساسيَّين:

– الأول: مساهمة الدولة في إعادة رسملة مصرف لبنان بـ2.5 مليار دولار (عبر سندات مالية أو غير ذلك)، وهذه فكرة ليست جديدة، بل وردت في خطّة حكومة حسان دياب التي أعدّتها “لازارد”.

– الثاني: إنشاء صندوق استرجاع الودائع، على أن يُنقل إليه (جزء من) شهادات الإيداع الصادرة لصالح المصارف من مصرف لبنان، بحيث تُشطب من موجودات المصارف من جهة، ومن مطلوبات مصرف لبنان من جهة أخرى، وهكذا تُنظّف ميزانيات النظام المالي من “الوسخ المخبّأ تحت السجاد”. ويضاف إلى هذا “الوسخ” مساهمات مالية من أرباح المصارف، وحقوق مصرف لبنان المتعلّقة بإمكانية استعادته شيئاً من الأموال المسروقة أو المهرّبة وغير المشروعة. وربّما المقصود ضمناً هنا القضايا التي ينظر فيها القضاء الأوروبي، والمرتبطة بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. ويُضاف إليها بعض الإيرادات المستقبلية من ميزانية الدولة، لكن بشروط صعبة التحقّق، منها خفض الدين العامّ إلى مستوى معيّن، وإتمام برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي بنجاح، وغيرهما من الشروط المستحيلة.

ليس مجلس النواب إلّا انعكاساً لميزان القوى في البلد الذي تميل كفّته بشكل ساحق إلى تصفية الأزمة بقوّة الأمر الواقع، وهذا اتجاه اتّضح منذ السنة الأولى للأزمة

الفذلكة النظرية لهذين الركنين عبارة عن تسوية بين مبدأين: الأوّل هو اعتراف الدولة بالمسؤولية، جزئياً، في معالجة الوضع المتعثّر لمصرف لبنان (هناك بعض التقدّم في هذا المبدأ مقارنة بالخطة السابقة)، وبالتالي بشيء من المسؤولية تجاه المودعين، والثاني مستمدّ من أدبيّات صندوق النقد الدولي، ومفاده عدم تحميل الأجيال المقبلة عبء خسائر الأزمة، إلا في حدود طاقة الميزانية العامة وما يفيض عنها بعد الحدّ الأدنى المقبول من التقديمات الاجتماعية، وبالتالي عدم المسّ بأصول الدولة كرمى لعيون المودعين.

 

البرلمان يريد الحلّ بقوّة الأمر الواقع

ليس النقاش في مجلس النواب تقنيّاً، بدليل أنّ رئيس اللجنة النائب إبراهيم كنعان، وجرياً على عادته، لم يُضِع الوقت في مناقشة جوهر الاقتراح، بل بدا وكأنّه يختلق العقبات لإيقاف النقاش، فتذرّع بعدم وجود أرقام دقيقة لحجم الودائع ولحجم موجودات المصارف ومصرف لبنان، ليوقف النقاش (!).

ليس مجلس النواب إلّا انعكاساً لميزان القوى في البلد الذي تميل كفّته بشكل ساحق إلى تصفية الأزمة بقوّة الأمر الواقع، وهذا اتجاه اتّضح منذ السنة الأولى للأزمة، ببساطة لأنّ أيّ حلّ منظّم لن يكون في صالح “الرابحين” من الأزمة.

والمفارقة الفاقعة أنّ “تطيير” الودائع يلتقي عليه تيّاران متباعدان، أحدهما في أقصى اليمين والآخر في أقصى اليسار.

 

حزب رجال الأعمال والشركات

في اليمين المفرط في الرأسمالية، حزب رجال الأعمال والشركات الكبرى التي استفادت من إسقاط قروض بعشرات مليارات الدولارات، وهؤلاء من مصلحتهم أن تُقفَل الصفحة ويُقال “عفا الله عمّا سلف”. الأرقام لا تدع مجالاً للشكّ. خلال ثلاث سنوات من الأزمة، انخفض رصيد قروض القطاع الخاص من 40 مليار دولار إلى 11 مليار دولار حالياً، بفضل عمليّات السداد بالليرة على سعر الـ 1,507 ولعبة شراء الشيكات. ونتيجة لذلك ارتاح القطاع الخاص من خدمة ديون لا تقلّ عن مليارَيْ دولار سنوياً، وظلّ طوال هذه الفترة يسدّد ضريبة الدخل وضريبة القيمة المضافة على السعر الرسمي للّيرة.

وفي هذا الحزب أيضاً المصارف وملّاكها، لأنّهم يدركون أنّ أيّ حلّ ممهور بموافقة صندوق النقد الدولي يوقف مهزلة الميزانيات المخالفة لأبسط معايير المحاسبة الدولية ومعايير بازل-3، ويُلزمهم بالتنازل عن جزء من أصولهم ورؤوس أموالهم للمودعين.

تختصر وصلة الشتائم بين النائب إبراهيم كنعان والصحافي حسن علّيق على شاشة المنار حقيقة الموقف في البلاد: اليمين واليسار مختلفان على كلّ شيء ومتّفقان على تطيير الودائع

شعبويّة اليسار

في المقلب الآخر اليسار الشعبوي بتشكيلات شتّى. فيه من يقولون إنّ أموال المودعين ليست مقدّسة، وآخرون يقولون إنّ أصول الدولة ليست للمودعين فقط، وبعض ثالث يقول إنّه لا يجوز تحميل الشعب كلّه أعباءً ضريبيّة من أجل إعادة أموال المودعين.

ينطوي هذا المنطق الراديكالي على نزعة روبن هوديّة تقسّم المجتمع إلى طبقة “بورجوازية” تجمع أصحاب المصارف والمودعين، وطبقة “بروليتاريّة” حلال عليها أن تستفيد من أموال المودعين، عبر تثبيت سعر الصرف وتمويل الإنفاق الحكومي وتمويل الدعم، وتعتبر في النهاية أن لا بأس في أن يذهب المودعون إلى الجحيم، فهناك ما هو أهمّ من التفكير في إعادة شيء من أموالهم إليهم، ولو حتّى نصفها.
أرباح صافية.. وخسائر مثلُها

المشكلة في المقاربة التقنيّة لسعادة الشامي وخبراء صندوق النقد الدولي أنّها لا تقرأ الأزمة من منظار ميزان القوى الاقتصادي-السياسي.

من هذا المنظار هناك أزمة، نعم، لكن ليس هناك “خسائر” تعمّ المجتمع، بل انتقال للثروة من فئة إلى أخرى. ثمّة خسائر لفئة من اللبنانيين تقابلها أرباح صافية تكاد تعادلها لفئات أخرى.

هناك ودائع بـ 96 مليار دولار تقدّر الحكومة في خطّتها بأن ما تبخّر منها يزيد على 72 مليار دولار (والخسارة في ازدياد مع مرور الوقت)، وفي المقابل هناك أرباح لفئات أخرى قريبة من هذا الرقم: هناك المقترضون الذين ارتاحوا من خدمة الديون وحصلوا على أصول عقارية شبه مجّانية، وهناك من هرّبوا أموالهم إلى الخارج، ومن استفادوا من أموال الدعم، ومن استغلّوا فساد منصّة “صيرفة”.

لتصحيح “انتقال الثروة” من المودعين إلى المقترضين وسواهم قناة واحدة ممكنة نظريّة، وهي سياسة ضريبية عادلة توزّع الأعباء، بحيث يتحمّل من جنوا الثروات “الجائرة” في السنوات الثلاث الماضية ضرائب استثنائية (windfall tax)، شبيهة بتلك التي تفرضها الدول الأوروبية على شركات الطاقة التي استفادت من ارتفاع أسعار النفط والغاز، فيما فئات الشعب تعاني من عبء هذا الارتفاع.

 

حلّ الأزمة بفهمها

هذا ممكن لكن ليس في لبنان. لكي يفهم سعادة الشامي وصندوق النقد الدولي لماذا تذهب مشاريع القوانين إلى مجلس النواب وتوارى في الأدراج لدى اللجان النيابية يجب أن يفهما ميزان القوى السياسي للفئات الرابحة والفئات الخاسرة. يشير الواقع إلى أنّ الغالبية العظمى من المودعين الباقين، بعد تهريب أموال المودعين النافذين، ليسوا بالقوة السياسية الكافية لفرض حلّ منظّم يحفظ حقوقهم، فالأرقام الكبيرة محصورة بأعداد قليلة لا تتجاوز بضعة آلاف من المودعين، معظمهم من المغتربين الذين ما في أيديهم أوراق للضغط، ومن لديه أوراق فقد استخدمها لتهريب أمواله والنجاة بنفسه، وليس لتشكيل لوبي ضاغط لصالح جماعة المودعين.

إقرأ أيضاً: لا عودة للودائع قبل توزيعٍ عادلٍ للخسائر

أمّا الجبهة الأخرى فتشمل ائتلافاً عريضاً من رجال الأعمال والمصرفيين، وحتى من الطبقات الشعبية المستفيدة من قروض الإسكان والقروض الشخصية. وكلّ هؤلاء يتقاطعون عند رفض أيّ حلّ يحمّلهم أعباء من أجل إعادة 96 مليار دولار لبضعة آلاف من قليلي الحيلة.

تختصر وصلة الشتائم بين النائب إبراهيم كنعان والصحافي حسن علّيق على شاشة المنار حقيقة الموقف في البلاد: اليمين واليسار مختلفان على كلّ شيء ومتّفقان على تطيير الودائع.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…