لم يعد غياب رئيس للجمهورية حالة استثنائية في لبنان، بل أصبح تقليداً يمارسه اللبنانيون مرّة كلّ ستّ سنوات.
ولم تعد الجماعات الطائفية في لبنان تعيش في مركب واحد، يبحر بها معاً وسط متاهات الشرق الأوسط، بل أصبح لكلّ جماعة مركبها الخاص. وأصبح كلّ مركب يبحر وسط هذه المتاهات في الاتجاه المعاكس الذي تسلكه المراكب الأخرى. وأصبح لكلّ من هذه المراكب الريح المناسبة التي تدفعها في الاتجاه الذي تُستدرَج إليه. فلكلّ مركب ربّانه. ولكلّ ربّان خريطة إبحاره.
كان لبنان بيتاً للّبنانيين، فأصبح منزلاً لبيوت متعدّدة، على حدّ وصف المؤرّخ الكبير المرحوم كمال الصليبي.
لبنان مشروع وطن
في الأساس ما كان لبنان ليكون وطناً لطائفة محدّدة. كان مشروعاً لوطن الطوائف السبع عشرة معاً. قيمته ومبرّر وجوده أن يكون وطناً واحداً لكلّ طوائفه. وهو يفقد اليوم هذه القيمة ويخسر مبرّر وجوده واستمراره عندما يتحوّل إلى أوطان متناثرة. لكلّ طائفة علَم ونشيد. ولكلّ منها مفيد ومستفيد من داخل الحدود ومن خارجها.
كاتب النشيد الوطني كان على حقّ عندما استهلّ النشيد بعبارة “كلّنا للوطن”. لا بدّ أنّه كان مثلنا متفائلاً جدّاً، مؤمناً بمبدأ الوحدة في التعدّد. حتى جعل من هذه “الكلّيّة” المدماك الأساس للوطن نشيداً وكياناً. ولا بدّ أيضاً أنّه لم يكن إلغائيّاً للآخر، ولا احتكاريّاً للوطن.
اليوم تُطوى صفحة هذا الوطن الموحّد في هذه الجغرافيا اللبنانية المتناثرة، وتُفتح صفحات أوطان بديلة على قياس كلّ طائفة. كلٌّ يغنّي على ليلاه. وليلى في بيروت مريضة
اليوم تُطوى صفحة هذا الوطن الموحّد في هذه الجغرافيا اللبنانية المتناثرة، وتُفتح صفحات أوطان بديلة على قياس كلّ طائفة. كلٌّ يغنّي على ليلاه. وليلى في بيروت مريضة!! هكذا عاد لبنان إلى القرون الوسطى، حيث كان الجميع ضدّ الجميع، سواء في الحرب الأهليّة الإنكليزية أو في سلسلة الحروب الدينية في أوروبا. يومذاك جاء الفيلسوف توماس هوبز بنظرية “إرساء قواعد موحّدة في التعدّد”. وهي النظريّة التي أنهت الحروب وأرست قواعد السلام الاجتماعي داخل الدولة. وذلك من خلال إقرار حقّ الجماعات المطلق في ضمان الأمن العامّ مقابل ولائها الكامل، وتخلّيها عن حرّياتها المطلقة أو المتفلّتة مقابل منع الحروب والصراعات الأهليّة والتسليم الكامل لسلطة الدولة وحقّها الحصري في استخدام السلاح، وهو ما اتُّفق على تسميته بالعقد الاجتماعي الذي قال به جون لوك. وهو عقد بين المواطنين يلتزمون بموجبه بالعيش معاً بسلام، تاركين للدولة، للدولة وحدها، تحقيق الأمن العامّ لمنع الصراعات الأهليّة.
نجاح لبنان الموقوف
تبنّى لبنان هذه المعادلة الفلسفية البنّاءة قبل مئة عام، وكان نجاحه “المتقطّع” السبب وراء اعتباره “رسالة”، كما وصفه البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني. ولكن لا توجد رسالة من دون رسول يؤمن بها ويمارس تعاليمها ويلتزم بمبادئها.
ما يجري في لبنان اليوم يؤكّد العودة إلى ما قبل فلاسفة الحداثة جان جاك روسو وتوماس هوبز وجون لوك وفلسفة العقد الاجتماعي. لقد استبدل لبنان الحالي فلسفة هؤلاء الأعلام بفلسفة أعلامه الكبار الذين يمسكون اليوم بتلابيب قضاياه ومصيره تارة باسم الطائفة، وتارة أخرى باسم الميثاقية. فلا الدولة تحمي شرائح المجتمع وتصون وحدته الوطنية، ولا هذه الشرائح الاجتماعية الطوائفية تعتمد على الدولة في أمنها وفي ضبط علاقاتها ومصالحها المتداخلة. ولذلك أصبح العقد الاجتماعي، الذي نسمّيه الميثاق الوطني، أوهى من خيط العنكبوت. حتى التذكير به وسط دعوات وممارسات التفلّت، التي تنطلق من هنا وهناك، يبدو وكأنّه صرخة في وادٍ وحسب.
يستمدّ بعض القوى في لبنان سلطته من مرجعية إلهية. والنتيجة الشعبية العامّة: سمعاً وطاعة.
إقرأ أيضاً: المشروع اللبنانيّ الفاشل ومشروع الحزب الضائع!
ويستمدّ بعضها الآخر سلطته من مرجعية استبدادية، والنتيجة هيمنة مطلقة. كلٌّ ينادي بحقوق الناس ويدّعي الدفاع عن مصالحها. وكلّ الناس تشكو من ضياع الحقوق ومن تبدّد المصالح ومن فشل الدولة.
وهكذا تبدأ الفتنة بتبادل الاتّهامات. وتتحوّل الاتّهامات إلى إدانات، والإدانات إلى مواجهات، والمواجهات إلى انقسامات وتشرذمات، على النحو الذي نراه في الصومال اليوم.
وهكذا بدلاً من لبننة الصومال، بتنا نخشى من صوملة لبنان.