أخيراً صار جبران باسيل درّة تاج ذاك التفاهم المتصدّع. وبات الحديث عن باسيل “الوصيّ على العهد القويّ” يبعث على الملل. فتاريخ لبنان السياسي لم يعرف شخصية بهذه الأنانيّة السياسية، ولم يشهد التاريخ السياسي العالمي أن أصبحت جمهورية بطولها وعرضها رهينة ما يريده صاحب موقع في السياسة من مناصب ومكاسب وتنفيعات وكيديّات وأحلام. وهو دخل موسوعة غينيس في أطول سياسة تعطيل حكومي في العالم. ربّما يتجلّى أبلغ اختصار لجبران في الألقاب التي “أغدقها” عليه رهط من السياسيين والصحافيين وحتى من الثائرين على فساده في الشوارع والساحات أو من الناشطين في الفيسبوك. لقد باتت الألقاب المخصّصة للصهر العجيب تشكّل قاموساً خاصّاً به. مردّ كثرتها وفحواها هو ما آلت إليه السياسة في لبنان من جهة، وفكرة عامّة وسوداء عن الصراع على رئاسة الجمهورية في هذا البلد من جهة ثانية. وتجري الأمور وكأنّ الماضي لم يمضِ، والحروب لم تقع، والمؤمن يلدغ من الجحر مئات المرّات.
صار جبران باسيل درّة تاج ذاك التفاهم المتصدّع. وبات الحديث عن باسيل “الوصيّ على العهد القويّ” يبعث على الملل
ألقاب باسيل
الألقاب التي هبطت على باسيل من كلّ حدب وصوب وناحية، أشبه بوجوه لشخصه على مدى 15 عاماً:
– لقب “الصهر المعجزة” على وزن “الطفل المعجزة” الذي يتصرّف وكأنّه كلّ شيء في التيار العوني، إذ بلغ به العلم أنّه يعرف في الاقتصاد والرياضة والإعلام والعلاقات الخارجية.
– وباسيل هو “قوم بوس تيريز” حسب توصيف سمير جعجع في برنامج “صار الوقت”. وتيريز هنا هي المهيمنة على كلّ شيء في رئاسة الجمهورية.
– ولن ننسى “زوربا اليوناني” حسب وليد جنبلاط خلال انتخاب رئيس الجمهورية. وهو عنوان رواية شهيرة للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكس “تدور حول الرئيس أو الأستاذ باسيل الغارق دائماً في الكتب، والذي يتّفق أن يلتقي بزوربا عندما كان بصدد استثمار مناجم للفحم في الجزر اليونانية. وأثناء الرحلة تبدأ المكاشفات والاكتشافات التي لم يكن باسيل يحلم بها. فهو عاد ليفهم الحياة على طريقة زوربا، صاحب الثقافة الفطرية التي جمعها من الخبرات والتجارب في حياته الطويلة”.
– جبران هو “راسبوتين الجمهورية”، حسب قول الزميل يوسف بزّي، مع ما يحمله هذا اللقب في التاريخ الروسي من صخب سلطويّ وسحريّ. راسبوتين، الآتي من طبقة الفلاحين وبيوتهم الفقيرة في سيبيريا، يقيم في قصر قيصر روسيا نيقولاي الثاني، ويصبح رجله الأول وموضع ثقته. سرّع باسيل بسبب جموحه وطرق هيمنته على السلطة في توسيع رقعة انتفاضة 17 تشرين 2019 اللبنانية. لكنّ الانتفاضة اللبنانية تعثّرت، والأرجح أن يكون السبب تركيبة البلد الطوائفية والروحية ومواجهتها “بالقوّة” من جانب حزب الله وفتيان “شيعة شيعة شيعة” على جسر الرينغ في وسط بيروت.
– عندما غضب اللبنانيون ونزلوا إلى الشارع في 17 تشرين، ابتكروا شتيمة ناريّة ونابية كانت موجّهة إلى جبران تحديداً، وصار لقبه الإنترنتيّ والأكثر رواجاً: “الهيلا هو” على إيقاع موسيقى التكنو.
باسيل انتهازيّ بامتياز، وبراغماتيّ بوقاحة. يدفن المبادئ عند أوّل منعطف. كان من عرّابي التصالح مع النظام السوري. نسي شهداء الجيش وأسراه وبقي يحتفل بـ13 تشرين كي يطلق المواقف الاستفزازية فقط
التيّار الباسيليّ
جبران أيضاً هو:
– “ذراع العهد الأيمن”.
– “رجل العهد الأوّل”.
– “حاكم الظلّ”.
– “صهر الرئيس”.
– “المارونيّ الشيعيّ”.
– “عاشق زواج المتعة” في السياسة والزواج بالإكراه بل الزواج بالاحتيال.
– ربيب خطابات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الدوريّة.
– من عطّل تشكيل الحكومات المتعاقبة عدّة أشهر ليحصل على لقب “معالي الوزير” أو يبقى في الوزارة، أو يستحوذ على قدر كبير من الوزارات.
– من فرض بمعيّة رعاته وحلفائه أكثر من قانون انتخابي حتى يحصل على لقب “سعادة النائب” عن منطقة البترون. واعتبر قانون الدوحة فتحاً مبيناً استردّ فيه “حقوق المسيحيين”.
– من وصل بالتزكية إلى رئاسة التيار بـ”سيف عمّه”. إذ فصّل النظام الداخلي على قياسه. وهذا زاد الشقاق بين من يحمل منطق المؤسسة ومن يدير الأمور بعقليّة القبيلة والعائلة. واستحوذ باسيل على التيار وجعله باسيليّاً. طرد المناضلين والمؤسّسين وجلب رجال الأعمال وأصحاب الشركات، إضافة إلى النوابغ.
– لا عجب إن قلنا مسبقاً وقبل الأوان إنّ باسيل سيفتعل الكوارث ليحصل على لقب “فخامة الرئيس”. وهو يدرك أنّه لن يستطيع الوصول إلا بسيف غيره.
– من وعد المسيحيين بأنّه سينسيهم كميل شمعون وبشير الجميّل. ولا ينسى اللبنانيون أنّ الأول انتهت ولايته الرئاسية بحرب. والثاني وصل إلى الرئاسة بمشروع حرب ودبّابة إسرائيلية، وكان اغتياله مقدّمة لاغتيال بلد بكامله. فهل من أحد يخوض حرباً لتثبيت كرسي باسيل في الرئاسة؟
يلمّح كثر إلى أنّ باسيل قبل العقوبات الأميركية عليه كان يفاوض الأميركيين على تبوُّئه كرسي رئاسة الجمهورية شرطاً للابتعاد عن حزب الله. فهل يجرؤ باسيل على فعل ذلك؟ وهل يقف حزب الله متفرّجاً؟ هل يتذاكى على حزب الله أم يعرف حدود اللعبة؟ يقول كثر إنّ حزب الله لا يثق به ويترك له هامشاً للتحرّك، وحين تصل الأمور إلى اللحظة الحاسمة يصبح لكلّ حادث حديث، وتُطوى صفحة اللعب والأهواء.
باسيل المنبريّ وعاشق التصريحات هو كاره للإعلام والإعلاميين وعاشق لمؤتمرات الطاقة الاغترابية غير المجدية. وهو عاشق للصولات والجولات الاعتباطية في القرى والدساكر بحثاً عن شعبية وهميّة
زواج المتعة
باسيل انتهازيّ بامتياز، وبراغماتيّ بجدارة. يدفن المبادئ عند أوّل منعطف. كان من عرّابي التصالح مع النظام السوري. نسي شهداء الجيش وأسراه وبقي يحتفل بـ13 تشرين كي يطلق المواقف الاستفزازية فقط.
كان من عرّابي التقارب مع حزب الله. تناسى كلّ صولات العونيين وجولاتهم ضدّ سلاح حزب الله في الخارج والمطالبة بتنفيذ القرار 1559. وطوى “الكتاب البرتقالي” الذي تضمّن مبادئ بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية، فصار السلاح للعونيين جزءاً ضرورياً وديالكتيكياً لمعادلة الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي من جهة، والصراع على الحكم في لبنان من جهة ثانية. وأصبحت مغازلة سلاح المقاومة وسيلة للاستحواذ على السلطة اللبنانية والهيمنة على مرافقها. على مدى سنوات كان حزب الله رافعة لباسيل ويريده غطاء مسيحياً له. ليست مبادئ التيار البرتقالي وحدها التي طُويت، فعون كان أطلق كتاب “الإبراء المستحيل”، الذي يتضمّن اتّهامات شنيعة بحقّ “تيار المستقبل”. كان الإعلام العوني يردّدها آناء الليل وأطراف النهار. لكنّه سرعان ما طوى الكتاب عند منعطف التسوية الرئاسية مع سعد الحريري، مع التذكير أنّ الأخير اعتبر باسيل المسبّب الرئيس لانهيار شعبيّته. وباسيل السريع الصعود، والسريع التحرّكات، يعقد صفقة مع جعجع قائمة على تحاصص مفضوح من منطلق شعار “أوعا خيّك”، سرعان ما يتنكّر له ويتحوّل باسيل نابشاً للحروب، سواء في اشتباكاته مع القوات اللبنانية أو مع الحزب الاشتراكي.
الحقّ أنّه ليس في لبنان شخص بهذا الكمّ من محاولة اللعب على الأوتار، وتقوم سياسته على استفزاز أبناء البيئات الأخرى من السُنّة بالمجمل والشيعة (حركة أمل) والدروز وحتى المسيحيين (قواتيين ومردة) والعرب (فلسطينيين وسوريين وخليجيين). حتى إنّ باسيل لم ينجُ من التصادم مع جمهور حزب الله نفسه. فـ”الوزير المقاوم” والحليف للحزب تحدّث مراراً عن “اللامشكلة الأيديولوجية مع إسرائيل”، فيما كان حزب الله لأسباب يصعب فهمها يغضّ النظر عن كثير من الأمور التي تتجاوز الخطّ الأحمر الذي يرسمه للآخرين، غير باسيل طبعاً.
صاحب الكهرباء والسدود
يهاجم جبران باسيل الصاعد، لأنّه صهر الرئيس، الإقطاع ويناهضه، وهو أكثر إقطاعية من غيره، وغالباً ما يبيع سمكاً في البحر، بدءاً من وعوده الدائمة بتوفير كهرباء 24 على 24، وصولاً إلى تطبيله وتزميره لبناء السدود فتكون الخاتمة التعسة سدوداً بلا ماء.
باسيل المنبريّ وعاشق التصريحات هو كاره للإعلام والإعلاميين وعاشق لمؤتمرات الطاقة الاغترابية غير المجدية. وهو عاشق للصولات والجولات الاعتباطية في القرى والدساكر بحثاً عن شعبية وهميّة، حتى في عرين القوات اللبنانية (بشرّي). هو بلا ريب يفتقر إلى أيّ نوع من الإقناع لكنّه قادر على التعبئة المتطرفة.
إقرأ أيضاً: قراءة في تفاهم مار مخايل (2): الدويلة تلتهم الدولة
حامل الصلبان
آخر الأخبار الباسيليّة أنّه بات يستعمل أقوال كتّاب وأدباء عالميين في كلماته ومؤتمراته الصحافية ليظهر أنّه قارئ نهم لمؤلّفاتهم. ومن قبل كان يظهر في أثناء إلقاء كلماته الوعظية والاستفزازية وخلفه مكتبة متنوّعة اللغات والمشارب والمؤلّفين. وفي مقلب آخر يحكي عن مظلوميّته بعد العقوبات الأميركية وكأنّه يحمل الصليب على أكتافه ويذهب إلى الجلجلة.
أبرز “منجزات” باسيل طوال السنوات الماضية أنّه حارب بقوّة معظم الشخصيات السياسية المسيحية التي لديها هامش من التواصل والجمع بين الطوائف. وتصرّف بذهنية فدرالية مقيتة. فحتى الكهرباء المعطّلة أدخلها في أتون الفدرلة والتطييف انطلاقاً من مبدأ التنفيع والمحسوبية والفساد. وأفدح ثمار البهلوانية الباسيليّة الاصطدام بعقوبات أميركية غيّرت مسار معظم الأشياء، وفتحت الباب أمام احتمالات جديدة لم تكن في الحسبان، أبرزها اختناق لبنان. واليوم نعيش احتمالات رفع العقوبات عنه بعد “تغيير” جبران سلوكه… والله أعلم.