كمين ليليّ في وطن لا نهار فيه

مدة القراءة 5 د

“هل انتهت الحرب؟”. ولكنّها حرب لم تبدأ لكي تنتهي. ولأنّها من غير بداية لا يمكن أن تكون لها نهاية. منذ سفينة نوح كانت هناك حرب على هذه الأرض التي سُمّيت وطناً على سبيل المجاز أو الفكاهة. هناك جثّة تضحك فيما تسيل خطواتها وسط دروب متاهة تنتهي بأبواب لا تُفتح. ومع الوقت صارت تلك الأبواب مجرّد مزحة ترك رسّامها على مقابضها شفاهاً ملطّخة بضحكات بلهاء. أما كان علينا أن نهبط من السلالم بدلاً من أن نرتقيها بعدما تركنا أرواحنا في مطابخ، توزّعت وجباتها بين كلام مشويّ على حطب أشجار الورد وآخر مسلوق بماء النار؟

كان أحمد خلف قد كتب قصّته “خوذة لرجل نصف ميت”، فيما عاد موفّق خضر من الحرب حزيناً ومات مثلما عاش طفلاً ببراءة شيخ لم يعش حياته كما عاشها سركون بولص حين ذهب إلى مدينة أين ولم يعد منها. بلغت السخرية يومها بموسى كريدي أن يقلّد الكاتب غوديا في جلسته صامتاً وهو يراقب زخارف جامع الحيدرخانة، يلتهم بعضها البعض الآخر مثل الأفاعي. تلك نبوءة صار العراقيون بعدها يلتهم بعضهم البعض الآخر بشهيّة كما لو أنّ نوافذ مطابخهم كانت مفتوحة على مقابر لانهائية.

“هل انتهت الحرب؟”. ولكنّها حرب لم تبدأ لكي تنتهي. ولأنّها من غير بداية لا يمكن أن تكون لها نهاية

“سرّ الليل” سمعته ولم أرَه. عبارة هي سؤال من غير أداة استفهام. كنّا على مشارف عبادان. حين اقتربت منه اكتشفت أنّه نصف أعمى. “هناك خطأ في الحرب إذاً”، لكن متى لم تكن الحرب على خطأ؟ ضحك لأنّه هو الآخر نسي الكلمة. أبَقِيت أسرار؟ صرنا نمشي بمخدّاتنا وننام على التراب فيما الفئران تتقافز من فوقنا في انتظار روائح الجثث المتفحّمة. يا سوط تلك الجمعة الطويلة، قبل الأذان بساعتين كان جرس كنيستك قد أعلن الحداد. كانت بغداد في الراديو تستيقظ على صوت هناء: “من فرحتي راح أطير/ ويا الهوا والطير/ قلي حبيبي حبيبي/ صباح الخير”. ولأنّها في كوكب آخر، ولأنّها أسقطتنا من جدول الحساب، فقد كان صفيرها يدوّي مثل صفير أعمى في رؤوسنا. القذيفة الطائشة أشدّ خطراً من عين القنّاص التي يشوّشها نقيق الضفادع. كانت عبادان أمامنا والبصرة من ورائنا وحبّات الفاصولياء الباردة تغلّف الحنجرة بشمع يابس.

 

خراف من أجل صانعة الملوك

“تنتهي الحرب حين نموت”، قال لي بعدما هدأت أنفاسه وصار سرّ الليل بمنزلة مفتاح لمعبد هندوسيّ لن تتاح لنا زيارته. ما من أحد سمعته يقول عبارة “بعد الحرب”. فالموت لم يعد فكرة تُخيف. نحن موتى. إن عدنا إلى الحياة فتلك حياة أخرى. لقد سمعت ضابط الاستطلاع وهو يغنّي: “اللي جوه القلب كان في القلب جوّه/ رحنا واتغيّرنا إحنا إلا هوه”. سنضحك من الأحلام أو نسمح لها بأن تضحك منّا. قلت لنفسي “سأهرب بفتاتي هذه الليلة إلى مقبرة الإنكليز التي تقع خلف سكّة القطار الحديدي الذاهب إلى مستشفى المجانين في الشماعية حين يهدأ القصف”. لم تكن العلبة قد صُنعت في بلاد يائسة. كنّا نسير بالـ”ميني جوب” وبنطلون الـ”شارلستون” بين القبور في تحدٍّ صارخ لقرار الحاج خير الله طلفاح في الوقت الذي كانت فيه أسواق حسو إخوان تفرض مجلّدات كتابه “كنتم خير أمّة أُخرجت للناس” على زبائنها الأثرياء. حين ناولني أبو طه وهو صاحب الكشك الأكثر شهرة في الباب الشرقي كتاب “العائلة المقدّسة” كان قد لفّه بجريدة وقال لي “ابتعد” قبل أن أدفع ثمن الكتاب. سال كلامنا على العشب حتى وصل إلى مس بيل التي كانت راقدة قريباً منّا. في “أمواج” فرجينيا وولف شيء من ثغاء الخراف التي كانت ترعى قريباً منّا. كلّ الموتى من حولنا هم منشدون في جنازة واحدة. لا أرتدي قبّعة لكي أرفعها حين أمرّ بقبر صانعة ملوك بلادي. كلمة واحدة ستمرّ مثل طائر وتحطّ على قبرها قالتها فتاتي: “أحبّك”، فانتهت الحرب.

إقرأ أيضاً: أصيح بالخليج يا خليج

الشاعر والمفكّر على حبل غسيل واحد

ما الذي يفعله الشاعر على منتصف جسر الأحرار؟ كلّما اصطدم ظلّ نورس بسياج الجسر سقطت ريشة منه على كتف عبد الأمير الحصيري الذاهب إلى حانة “شريف وحداد” من أجل ربع عرق لا يملك ثمنه. قيل يومها إنّ عزيز السيد جاسم قد وظّفه في مجلّة “وعي العمال” واشترى له بدلة أنيقة. ولكنّ النجفي الذي توهّم أنّ ذهابه إلى وادي عبقر لا يحدث إلا من خلال حرق الجواهري، النجفي هو الآخر تخلّى بعد ثلاثة أيام عن بدلته الجديدة وعاد إلى الحانة ثانية. أمّا عزيز السيد جاسم، وهو صديق السيّد النائب، وكان قد كتب للحزب سلسلة كراريس زرقاء وصفراء وحمراء، فقد قاده إلهامه إلى تأليف كتاب عن علي بن أبي طالب فكانت نهايته. مات الشاعر والمفكّر على حبل غسيل واحد. ألأنّهما لم ينتبها إلى أنّ الموت قد سبقهما وصارت أصابعه تسكن عيونهما؟ في الحرب ما من أثر للموت. ذلك لأنّ الموت لا يعاقب مَن يقتنصه بل يخلّصه من حياة تركها وراءه. لقد سلّمني مفتاحه الليلي وهو يعرف أنّ أبواب الصحراء مقيمة في مكان لن تكتشفه الحواسّ.

 

*كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…