يحار زوّار البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في فهم مواقفه بسبب لطفه وكياسته خلال استقبالاته. بعضهم يُفرط في التقدير “الإيجابي” إذا ما اتّسمت زيارتهم بالمجاملة. آخرون يستطردون نحو “السلبية” متى كان نقاش سيّد الصرح معهم عميقاً. في الحالين يُبنى التقدير غالباً على غير معناه. ذلك أنّ موقف الصرح البطريركي الحقيقي هو الذي يعلنه البطريرك في عظات الأحد، وذلك الذي يصدر في بيان المطارنة الموارنة الشهري، وهنا بيت القصيد. ففي الحالتين عبّر الصرح في كلام عالي السقف عن استياء من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ومن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله على حدّ سواء. واضطراره إلى رفع مستوى خطابه مرده أيضاً إلى رواج النقاش عن تعديل النظام من جهات كثيرة، وبما يهدد الحضور المسيحي.
زيارات لم تطمئن
في الثاني عشر من كانون الأول الماضي زار رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بكركي. في ذلك اللقاء ناقش الرجلان الإشكالية الحكومية بعدما كان رئيس التيار جبران باسيل قد رفع الصوت معارضاً اجتماع الحكومة في ظلّ الفراغ الرئاسي. بعد ذلك اللقاء قال ميقاتي إنّه سيعمل بتوصية البطريرك الداعية إلى تنظيم لقاء تشاوري للوزراء قبل الدعوة إلى عقد جلسة حكومية جديدة. لكنّ ما حصل كان عكس ذلك، فقد عُقد اجتماع حكومي من دون توافق، ثمّ عقد ميقاتي جلسة ثانية بعد حصوله على غطاء من حزب الله، تحت عنوان “إقرار سلف الكهرباء غير المكتملة”.
لم تقرأ بكركي ما حصل بطمأنينة، بل تشير مصادر البطريرك إلى أنّه قلق ممّا آلت إليه إجراءات الحكومة.
لم تقرأ بكركي ما حصل بطمأنينة، بل تشير مصادر البطريرك إلى أنّه قلق ممّا آلت إليه إجراءات الحكومة
صحيح أنّه منذ كان في الديمان، أعطى البطريرك لميقاتي ضوءاً أخضر لتسيير شؤون البلد في ظلّ الفراغ الرئاسي على الرغم من كلّ الزيارات التي قام بها باسيل يومذاك وحذّر فيها من عقد اجتماعات للحكومة. فقد بقي الراعي صامداً واعتبر أنّ للفراغ أحكامه.
حصل الفراغ فتحوّلت بكركي إلى المرجعية المارونية السياسية الأولى في البلاد وليس الدينية فقط. وما عاد “التمادي” في تصريف الأعمال والتوقيع باسم رئيس الجمهورية واجتماع الحكومة من دون مكوّن مسيحي فيها أموراً يمكن التغاضي عنها. وبحسب ما قالته مصادر مُطّلعة لـ”أساس”، ما عاد في مستطاع ميقاتي أن “يلبس ثوب الحمل في تعبيره عن عدم نيّته استفزاز المكوّن المسيحي بعدما سبق أن وعد بذلك في مجلس النواب ونكث بوعده.”
ينطلق قلق الصرح من عدّة وقائع بدأت تحصل تباعاً:
ـ أوّلاً، الفراغ الرئاسي.
ـ ثانياً، اجتماع الحكومة وتوقيع رئيسها بدلاً من رئيس الجمهورية في ظلّ غياب المكوّن المسيحي الأساسي فيها.
ـ ثالثاً، الاقتراب من نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة واحتمال تبوّؤ نائبه الأول الشيعي المركز في حال عدم التجديد له أو تعيين البديل (على الرغم من الكلام عن طلب برّي من نائب الحاكم الاستقالة من منصبه في نهاية عهد سلامة).
ـ رابعاً، تمسّك حزب الله بترشيح سليمان فرنجية على الرغم من إرادة الكتلتين المسيحيّتين الكبريَيْن.
ـ خامساً، الكلام عن إمكانية الذهاب إلى انتخاب رئيس بالنصف زائداً واحداً، و”تغييب” إرادة الأكثرية المسيحية وكأنّ ثمّة من يريد القول إنّ المسلمين ينتخبون الرئيس المسيحي.
وساطات ومحاولات تطمين
صحيح أنّ بكركي تريد لرئيس الجمهورية أن يكون له بُعد وطني، لكنّ عليه أن يكون منطلقاً من دعم مسيحي على الأقلّ، إسوة بالرئاستين الأخريَيْن في الحكومة ومجلس النواب. ومن هذا المنطلق نصّ بيان المطارنة الموارنة الأخير على أنّه “استناداً إلى الاجتهاد والفقه القانوني والنقاش الأكاديمي، لا يحقّ لرئيس الحكومة المستقيلة أن يدعو المجلس إلى الانعقاد من دون موافقة الوزراء، ولا يحقّ له أن يُصدر مراسيم ويوقّعها من دون توقيع جميع الوزراء، عملًا بالمادّة 62 من الدستور. ومن الواجب العودة إلى الاجتهاد الدستوريّ من أجل تحديد الإطار القانونيّ لتصريف الأعمال العاديّة و”الأعمال المهمّة” و”حالات الطوارئ”، منعاً لخلافاتٍ البلادُ بغنىً عنها”.
تقول أوساط حكومية معنيّة إنّ من المرتقب أن يشهد خطّ السراي-بكركي اتصالات وتواصلاً في محاولة لحلّ هذا الموضوع من دون استفزاز المراجع المسيحية لأنّ ذلك ليس في نيّة ميقاتي
وصلت الرسالة إلى السراي سريعاً. ونقلت أوساط حكومية معنيّة استياء ميقاتي من هذا الكلام بعدما كان اعتقد أنّه سبق أن تفاهم مع البطريرك. ونشر الموقع المقرّب منه مقالاً عالي السقف تجاه بكركي ورد فيه: “هل دور بكركي أن تطلق شرارة حرب التفسيرات الدستورية التي ستفتح أبواب جهنّم على الجميع وستُستتبع حتماً بردّات فعل مقابلة وتفسيرات دستورية مضادّة… رمي المسؤولية على الآخرين لم يعد يفيد، والمشكلة الأساسية في الموضوع الرئاسي مارونية بامتياز، وتتحمّل مسؤوليّتها القيادات المارونية المتخاصمة كافّة والمنقسمة على نفسها”.
في هذا الوقت كان وزير السياحة وليد نصار المقرّب من ميقاتي قد طلب موعداً من البطريرك. من المعروف أنّ نصار مقرّب من البطريرك وله زيارات روتينية للصرح، غير أنّه هذه المرّة لم يكن مكلّفاً من ميقاتي بشكل مباشر للقيام بأيّ دور، بل جاءت زيارته في سياق محاولة تهدئة التصعيد المتبادل بين السراي والصرح البطريركي.
حصل اللقاء يوم الجمعة الماضي، وقبل يومين من عظة أوّل من أمس، التي كرّر فيها البطريرك موقف الصربح بلغة مختلفة لكن بالمضمون نفسه قائلاً: “نحن قلنا منذ اليوم الأول لنهاية العهد إنّ هذه الحكومة هي مستقيلةٌ ومهمّتُها تصريفُ الأعمال. ومن واجبها التفاهم حول تفسيرِ تصريفِ الأعمال لئلّا تخلقَ إشكاليّاتٍ نحن بغنى عنها. إنَّ عملها محصورٌ بالمحافظةِ على الحدِّ الأدنى من تسييرِ شؤونِ المواطنين الضاغطةِ ومنعِ سقوطِ الدولة نهائيّاً، خصوصاً أنَّ مهزلةَ جلساتِ انتخابِ رئيس للجمهورية لا تزال مستمرّة، وقرار عقدها وفقاً للدستور مسلوب.”
وعليه تقول أوساط حكومية معنيّة إنّ من المرتقب أن يشهد خطّ السراي-بكركي اتصالات وتواصلاً في محاولة لحلّ هذا الموضوع من دون استقرار المراجع المسيحية لأنّ ذلك ليس في نيّة ميقاتي.
إقرأ أيضاً: بكركي تردّ على نصرالله: لن نسمح بتغيير هويّة لبنان
القلق يرتفع في بكركي
لم يعد الوضع مطمئناً في الصرح الماروني، فلا “الفراغ المقصود في الرئاسة” ولا تسيير عمل البلد من دون المسيحيين يطمئنان إلى مستقبل العمل السياسي. ولم تجد تطمينات الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، الذي حاول إقناع المسيحيين بأن لا استهداف لمواقعهم، آذاناً صاغية لها في بكركي. وكذلك تطمينات السراي لم تجد لها صدى في الصرح حيث كلّ ما يُحكى يتعلّق بوقائع تحصل تباعاً لإفراغ السلطة وتسلّمها وتسييرها بعد فراغ ماروني قد يكون غير مسبوق، ووسط تعنّت الثنائي في رفض الحوار في اختيار أيّ مرشّح رئاسي مختلف عن مرشّحهما. فهل يجرؤ أحد على أن يذهب نحو خيار استبعاد الكتل المسيحية في موضوع ملء الشغور الرئاسي؟ حتماً سيزيد خيار كهذا من الانقسام الطائفي في البلد الذي يجلس أساساً على شفير الهاوية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: josephinedeeb@