ليست أزمة لبنان اليوم أقلّ وقعاً على بكركي من أزمة أعوام الحرب، بل قد تكون أزمة أكبر لأنّها تهدّد “الكيان” بما يعنيه من وجود مسيحي فيه.
منذ مشاركتها في تأسيس لبنان الكبير في عهد البطريرك الياس الحويك إلى عهد الطائف الذي وافق عليه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير بعد تدخّل فاتيكانيّ، مرّت البطريركية المارونية بمحطات استدعت اتّخاذ مواقف صارمة في الأزمات الكبرى.
بالنسبة إلى بكركي، الفراغ الرئاسي اليوم قد يكون مقدّمة للإطاحة بالجمهورية التي نعرفها. ومخاوف بكركي كبيرة، ولا سيّما أنّ لبنان مقبل على استحقاقات دستورية وإدارية وسياسية وماليّة وقضائية وهو في حال تحلّل يقود خلالها البلاد حزبٌ “مسلّح” يستطيع متى أراد فرض إرادته على الجميع.
انطلاقاً من ثوابت بكركي يصوغ البطريرك بشارة الراعي مواقفه هذه الأيام، خصوصاً موقفه الأخير الذي ورد في عظة الأحد الفائت، والذي استدعى ردّاً مباشراً من الأمين العامّ لحزب الله حسن نصرالله.
في معلومات “أساس” أنّ المطارنة الموارنة ناقشوا كلام نصرالله الأخير في اجتماعهم الشهري في بكركي. لكن حصل اتفاق على عدم الردّ لأنّ بكركي لا تريد الدخول في جدل مباشر مع أحد
سقف بكركي وردّ نصرالله
منذ أقلّ من شهر زار وفد من حزب الله الصرح للمعايدة. غير أنّ مفعول التقارب لم يدُم طويلاً، إذ اضطرّ البطريرك إلى الكلام عن دور الحزب من دون أن يسمّيه، فجاء الردّ من نصرالله في خطابه الأخير من دون أن يسمّي الراعي مكتفياً بالإشارة إلى “بعض المرجعيات الدينية”.
لنعد إلى بداية هذه المواجهة: يوم الأحد أعاد الراعي عنوانَيْن إلى الواجهة: قضية تفجير مرفأ بيروت والمواقع المارونية الأولى في البلاد. وفي الحالتين حزب الله هو المعنيّ الأوّل.
في عهد ما بعد الطائف، وعلى الرغم من الخسارة التي مُني بها المسيحيون، حافظوا، حسب وثيقة الوفاق الوطني، إلى جانب رئاسة الجمهورية، على مواقع أولى تبدأ بقيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان وتصل إلى رئاسة مجلس القضاء الأعلى وغيرها. تقول مصادر مطّلعة على أجواء بكركي إنّه “أُفرغ موقع الرئاسة، والمواقع الأخرى على طريق إفراغها”، إذ تنطوي الأشهر المقبلة على استحقاقات تبدأ بحاكمية المصرف المركزي وتنتقل إلى القضاء ثمّ المؤسسة العسكرية. وإذا استمرّ تحلُّل الدولة… فعلى هذه المواقع السلام.
لم يقتصر ردّ نصرالله على “نفي أيّ نيّة لإفراغ المواقع المسيحية”، بل تعدّى ذلك إلى اتّهام وتحذير “مطلقي الإنذار” من اللعب على الوتر الطائفي المسيحي – المسلم عن قصد أو عن غير قصد. لكن في الصرح البطريركي لم تلقَ رسائل نصرالله التطمينيّة آذاناً صاغية.
بالنسبة إلى بكركي، الفراغ الرئاسي اليوم قد يكون مقدّمة للإطاحة بالجمهورية التي نعرفها. ومخاوف بكركي كبيرة، ولا سيّما أنّ لبنان مقبل على استحقاقات دستورية وإدارية وسياسية وماليّة وقضائية
بيان المطارنة الموارنة
في معلومات “أساس” أنّ المطارنة الموارنة ناقشوا كلام نصرالله الأخير في اجتماعهم الشهري في بكركي. لكن حصل اتفاق على عدم الردّ لأنّ بكركي لا تريد الدخول في جدل مباشر مع أحد. غير أنّ من يقرأ بيان المطارنة الموارنة الشهري سيعلم أنّ الردّ أتى موارباً، وأنّه أعلن الاستمرار في العنوانين بشكل لا رجعة عنه.
شجب البيان “عرقلة التحقيق في قضية تفجير مرفأ بيروت، والتوقيفات الكيديّة التي يتعرّض لها أهالي الضحايا”. ودعا المطارنة القوى السياسية التي تضع يدها على القضاء إلى رفعها لمواصلة التحقيق.
كرّر البيان ما جاء في عظة الراعي من تخوّف من ترحيل انتخاب رئيس الجمهورية إلى أمد مجهول. وذهب المطارنة هذه المرّة إلى أبعد من ذلك في رسالتهم إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي حين أشاروا إلى أنّ عقده جلسةً لمجلس الوزراء في ظلّ الفراغ الرئاسي أمر غير دستوري: “لا يحقّ لرئيس الحكومة المستقيلة أن يدعو المجلس إلى الانعقاد من دون موافقة الوزراء، ولا يحقّ له أن يصدر مراسيم ويوقّعها من دون توقيع جميع الوزراء، عملاً بالمادّة 62 من الدستور. ومن الواجب العودة إلى الاجتهاد الدستوريّ من أجل تحديد الإطار القانونيّ لتصريف الأعمال العاديّة والأعمال المهمّة وحالات الطوارئ، منعاً لخلافاتٍ البلادُ بغنىً عنها.”
الردّ على نصر الله
ردّ المطارنة ثانيةً على الأمين العامّ للحزب مكرّرين تحذيرهم من “إحداث فراغٍ في المناصب المارونية خصوصاً، والمسيحية عموماً، في الدولة. وإنْ دلّ ذلك على شيء، فعلى نيّة خفيّة ترمي إلى تغيير هويّة لبنان المبنيّة على الحرّيّة وصون كرامة المواطنين. وهي قضيّة لبنان الأساسيّة. كما ترمي إلى تلاشي الدولة اللبنانية وصولاً إلى وضع اليد على أشلائها. وهو ما سيتصدّى له اللبنانيون واللبنانيات بكلّ قواهم.”
هو ردّ قد يكون أوّليّاً. ليس حادّاً، لكنّه يقول إنّ كلام نصر الله ليس مقنعاً، وإنّه بعد كلامه يبقى تخوّف كبير في الصرح البطريركي من “تغيير هويّة لبنان المبنيّة على الحريّة وصون كرامة المواطنين”، ومن “تلاشي الدولة اللبنانية وصولاً إلى وضع اليد على أشلائها”.
إقرأ أيضاً: من يستهدف الموارنة في مناصبهم الكبرى؟
في عام 2000 أطلق البطريرك مار نصرالله بطرس صفير نداءه الشهير مطالباً بالانسحاب السوري من لبنان. يقول متابعون لحركته إنّه استند يومذاك إلى تطوّر دولي وإرادة مشتركة لإخراج السوريين من لبنان. فعلى ماذا يستند الراعي اليوم ليطلق مواقفه بهذا السقف العالي؟
يقول مقرّبون منه إنّه يدرك أنّ الدول مشغولة بأولويّاتها. لكنّ ثمّة واجبَ أن يصرخ أحد، وإن كان صدى ذلك مقتصراً على الداخل… ثمّة واجب لخلق التوازن المطلوب، وبكركي تحاول.
لمتابعة الكاتب على تويتر: josephinedeeb@