لم تحجب إيران يوماً عصبيّة فارسيّة كان يُتوقّع أن تخفت وتختفي نهائياً وفق أدبيّات الجمهورية الإسلامية. فعلى الرغم من خطاب إسلاموي يزعم أنّه عابر للحدود والمذاهب وأنّه متطوّع في دفاع أممي عن المستضعفين في الأرض، ظلّت فارسية النظام نافرة تختزن استعلاء وعداء وعنصرية لا جهد في كبتها.
وفق تلك الحقيقة يمكن أن نفهم هذه الزوبعة التي ثارت في طهران اعتراضاً على وصف الخليج بـ”العربي” في تسمية مسابقة كأس الخليج “العربي” التي تستضيف مدينة البصرة في جنوب العراق نسختها الـ25. ذلك أنّ إيران تُطلق على الممرّ المائي اسم “الخليج الفارسي”، وهذا أمر معروف، سواء حَكَم إيران شاهٌ أو وليٌّ فقيه.
تطوّعت جمهورية ولاية الفقيه لادّعاء تمثيل شيعة العالم، وخصوصاً أولئك العرب منهم، وقيادة “المستضعفين” في الأرض ضدّ “الاستكبار”
الصراع على الهويّة
انطلقت “كأس الخليج العربي” في عام 1970. ومذّاك وهي تحمل الاسم المنطقي المتداول عربياً. وتشارك فيها فرق تنتمي إلى دول عربية. ومن هذه المنطقة بالذات قام في 25 أيار من عام 1981 “مجلس التعاون لدول الخليج العربية”. وتستخدم جامعة الدول العربية بكلّ أعضائها اسم الخليج العربي عند ذكر ذلك الممرّ المائي في الوثائق والخطب الرسمية القانونية المتعارَف عليها دوليّاً، أو في الحديث عنه بشكل فطري وعفوي من قبل شعوب المنطقة.
في المقابل يحقّ لإيران أن تطلق على هذا الممرّ المائي الاسم الذي ترتئيه. حتى إنّه نُقل عن روح الله الخميني أنّه اقترح حلّاً وسطياً يُنهي الجدل (الذي لا تثيره إلا إيران) بإطلاق اسم “الخليج الإسلامي” على هذا الممرّ. وإذا ما كانت حسابات ثقافية وتاريخية وسياسية تفسّر تمسّك إيران بفارسيّة الخليج، وهذا حقّها، فمن حقّ الشعوب العربية بالمقابل، ولا سيّما الدول المشاطئة للممرّ المائي، التمسّك بعروبة الخليج اسماً ولغةً وتاريخاً وثقافةً.
حاجة إيران إلى الصراع
لا تتعلّق المسألة بخلاف على اجتهاد يحتاج إلى استدعاء التاريخ والجغرافيا، بل بحاجة طهران إلى افتعال صخب حول عرس لم تُدعَ إليه ولم تكن يوماً من المشاركين فيه. ولئن نفترض أنّ أزمات إيران المتراكمة والمتعدّدة بين داخل وخارج تستلزم ضرورات اختلاق عصبيّات تبدّد من خلالها انقساماً مجتمعياً مقلقاً، فإنّ في الأمر امتهاناً للاستعلاء الذي تعتبره إيران حقّاً يخوّلها “إملاء” الجغرافيا والتاريخ على كلّ بلدان المنطقة.
تطوّعت جمهورية ولاية الفقيه لادّعاء تمثيل شيعة العالم، وخصوصاً أولئك العرب منهم، وقيادة “المستضعفين” في الأرض ضدّ “الاستكبار”. غير أنّ تلك الأممية المزعومة تقوم على الهويّة الفارسية وطقوسها التي تداهم بلدان المنطقة. والمشكلة لا تكمن فقط في إثارة صراع مع كلّ دول المنطقة على فارسيّة الخليج في عزّ ادّعاء إيران توقاً إلى الانفتاح على دول الجوار والتبشير بقرب عودة الحوار مع السعودية، بل في التهجّم على العراق وانتقاده ومطالبته بأن يعتذر مسؤولوه عن كلمة “العربي”.
لو أنّ دولة من دول مجلس التعاون الخليجي الستّ قد استضافت البطولة للجأت طهران في الحدّ الأقصى إلى الاعتراض الرتيب على اسم “الخليج العربي” والمطالبة المضجرة باعتماد ما تعتمده اسماً، أي “الخليج الفارسي”
السطوة الإيرانيّة على عروبة العراق
ما زالت عروبة العراق تشكّل تحدّياً واستفزازاً لفارسيّة إيران. وإذا ما راجت في العراق بالذات منذ منتصف القرن العشرين الدعوات القومية العروبية بغضّ النظر عن فشل أو نجاح تجاربها، فإنّ طهران، منذ سقوط نظام صدّام حسين عام 2003، لم تدّخر جهداً لطمس الهويّة العربية للبلد من خلال إغراقه بهويّات دينية أو مذهبية أو شعاراتية جعلتها أساساً لطيّ صفحة تاريخية وإقحام صفحة أمر واقع بديل. وإذا ما اضطرّ قادة العراق في السنوات الأخيرة إلى المرور في طهران قبل أو بعد زياراتهم العواصم العربية، فذلك لأنّ السطوة الإيرانية أرادت التحكّم بعلاقات بغداد العربية وجعلها في الحدّ الأقصى علاقات روتينية بين عاصمتين من دون أيّ عبق هويّاتيّ جامع.
تحتجّ إيران على “عروبة” الخليج غير آبهة بما يسبّبه هذا الاعتراض من امتعاض وريبة في صفوف الشعوب العربية المجاورة. لكنّ الأدهى أنّ إيران لا تأبه بما تسبّبه هذه العصبية الفارسية من ضيق لدى حلفائها في العراق ومن حرج لدى تيّارها في المنطقة، سواء في دمشق حيث لطالما تغنّى النظام بعروبته واعتبر أنّ سوريا “قلب العروبة النابض”، أو لدى حزب الله في لبنان، أو لدى حركتَيْ حماس والجهاد في فلسطين، أو لدى جماعة الحوثي في اليمن، من دون التطرّق إلى تيّارات قومية عربية تعتبر نفسها حليفة لتيار الممانعة الذي تقوده طهران.
العراقيّون والفارسيّة والمذهبيّة
لو أنّ دولة من دول مجلس التعاون الخليجي الستّ قد استضافت البطولة للجأت طهران في الحدّ الأقصى إلى الاعتراض الرتيب على اسم “الخليج العربي” والمطالبة المضجرة باعتماد ما تعتمده اسماً، أي “الخليج الفارسي”. غير أنّ استضافة العراق لكأس الخليج العربي أثارت غضباً من نوع خبيث وصل إلى حدّ طلب “الاعتذار”، ذلك أنّ إيران تعتبر العراق جزءاً عضويّاً من امتداداتها الطبيعية النهائية. والظاهر أنّ ترحيب أهل البصرة الشعبي العاطفي والحماسيّ بالفرق الخليجية يكشف انهيار كلّ الاستثمار العقائدي الذي بذلته طهران داخل الجسم العراقي، ولا سيّما داخل مكوّنه الشيعي، وخصوصاً في جنوب العراق.
إقرأ أيضاً: هل تملك واشنطن منع التطبيع مع دمشق؟
باتت إيران مرتبكة إلى درجة أنّها فقدت قدراتها على وأد الحرج. فأن يستخدم رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، وهو ممثّل “الإطار التنسيقي” القريب من طهران، الاسم المعتمد لـ”كأس الخليج العربي”، وأن يغرّد السيّد مقتدى الصدى مرحّباً “بالضيوف العرب من دول الخليج العربي”، فتلك ظواهر تُعتبر طبيعية تمقت طهران كونها “طبيعية”.
انطلقت البطولة في 6 كانون الثاني الجاري، بمشاركة ثمانية منتخبات عربية اللغة والثقافة والانتماء، وهي البحرين والعراق والكويت وعمان وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة واليمن. لا تحتمل طهران حشداً عربياً في البصرة على ضفاف خليج عربي تحلم إيران أن تجعله فارسيّاً في البرّ والبحر.