تعلو مكتب بابا الفاتيكان فرنسيس أيقونة حصل عليها هديّة من المطران “سيفا توسلاف شيتشوك” أحد الآباء العاملين في أبرشيّته في بوينس أيرس.
كان المطران قد قدّم الأيقونة هديّة إلى “الكاردينال” فرنسيس في عام 2011 لمناسبة نقله إلى أوكرانيا لرعاية شؤون الطائفة الكاثوليكية هناك. وهي الأيقونة الوحيدة التي حملها البابا معه من بوينس أيرس إلى الفاتيكان بعد انتخابه على رأس السدّة البابوية، لكنّه لم يضعها فوق طاولة مكتبه إلا بعدما انفجرت الحرب في أوكرانيا.
تذكِّر هذه الأيقونة البابا بمأساة أوكرانيا. حتى إنّه في شهر تشرين الثاني الماضي، وفيما كان يتحدّث عن هذه المأساة أمام المؤمنين والمراسلين الصحافيين، لم يستطع أن يحبس دموعه تأثّراً وحزناً.
حاول البابا أكثر من مرّة أن يطرح نفسه وسيطاً بين روسيا وأوكرانيا، لكن كيف لرأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم أن يقوم بهذا الدور بين دولتين أرثوذكسيّتين؟
يبدو أنّ البابا أدرك أهميّة شقّ طريق جانبي للكرملين أملاً في استرضائه من أجل فتح الأبواب المغلقة أمام مبادرة بابوية للتسوية
قبل الحرب، وعندما انفصلت الكنيسة الأوكرانية عن كنيسة موسكو، ما كان لهذا الانفصال أن يأخذ شرعيّته من دون موافقة ومباركة من البطريرك بارثالوميو، بطريرك إسطنبول، الذي يُعتبر أوّل بين متساوين من البطاركة الآخرين، ومنهم بطريرك موسكو نفسه، لأنّه بطريرك المدينة التي كانت عاصمة للإمبراطورية البيزنطية التاريخية. ويتمتّع بارثالوميو، وهو من أصل يوناني، بعلاقات ودّية حميمة مع الفاتيكان، وتحديداً مع البابا فرنسيس. ولذلك عندما صدّق على قرار انفصال الكنيسة الأوكرانية، لقي موقفه ترحيباً حارّاً في دول الاتحاد الأوروبي وفي الولايات المتحدة، وفي الفاتيكان أيضاً، على عكس موسكو (الكرملين والكنيسة) التي أدانته بشدّة وبلغة حادّة.
إلا أنّ ذلك لم يحُل دون محاولات البابا التوسّط بين موسكو وكييف، لكن من دون نتيجة حتى الآن.
البابا يُغضب بوتين
مع بداية المعارك العسكرية بادر البابا إلى إدانة الحرب ووصفها بـ”العدوان العسكري غير المبرّر”، واستقبل وفداً أوكرانياً أرثوذكسياً من مدينة بوشا، التي سبق أن تعرّضت لقصف من القوات الروسية. يومئذٍ أدان البابا القصف الروسي وقبّل العلَم الأوكراني الذي حمله الوفد إليه.
ذهب البابا إلى أبعد من ذلك عندما توجّه في خطاب له إلى البطريرك الروسي كيريل قائلاً: “أدعوك أن لا تكون خادم المذبح عند بوتين”. أثارت هذه المواقف غضب الكرملين وسيّده، واعتُبرت مواقف انحيازية إلى جانب أوكرانيا تجرِّد البابا من صفة الحياد التي تؤهّله للقيام بدور الوسيط غير المنحاز.
يبدو أنّ البابا أدرك أهميّة شقّ طريق جانبي للكرملين أملاً في استرضائه من أجل فتح الأبواب المغلقة أمام مبادرة بابوية للتسوية، فأدلى في شهر حزيران الماضي بتصريح قال فيه: “ربّما يكون الاجتياح الروسي لأوكرانيا ردّ فعل على مواقف مستفزّة. ومن المبالغة في التبسيط اعتبار الحرب وكأنّها مجرّد صراع بين الخير والشرّ”. ولكنّ هذا الموقف الذي أزعج أوكرانيا، لم يكن كافياً لاسترضاء روسيا.
لم يصدر عن أوكرانيا أيّ ردّ فعل مباشر. ولكنّ المطران شيتشوك قام فور ذلك بزيارة البابا في روما. ولم يُعرف هل حمّلته الحكومة الأوكرانية رسالةً ما، لكنّ كلّ ما هو معروف أنّ البابا فرنسيس انتقد بعد استقباله المطران الأعمال العسكرية للقوات الشيشانية المؤيّدة للكرملين، وأدان ما وصفه “أعمالها الوحشيّة المتطرّفة”، مشدّداً على أنّها قوات أجنبية ليست من أهل البلاد (وهذا صحيح). وبهذا الموقف استرجع البابا ثقة أوكرانيا، لكنّه فقَدَ مرّة جديدة ثقة الكرملين وسيّده.
في محاولة لإعادة تصحيح هذا الوضع، أصدر الفاتيكان بيان اعتذار. وهو أمر نادر جدّاً في الدبلوماسية الفاتيكانية.
لقد حاول البابا فرنسيس من خلال اعتذاره أن يبقى على مسافة واحدة من موسكو وكييف حتى يتمكّن من أن يلعب دور الوسيط الموثوق به. لكنّ هذا الموقف الجديد شكّل إحراجاً لكلّ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اللذين قطعا الأمل بتحقيق أيّ تفاهم مع الكرملين وسيّده.
إقرأ أيضاً: أوكرانيا: بدء العدّ العكسيّ لوقف الحرب
الواقع الآن هو أنّ البابا يخشى أن تؤدّي دبلوماسية إغلاق أبواب الحرب المتصاعدة في أوكرانيا إلى جرّ العالم إلى صدام نووي لا يبقي ولا يذر. فالأطراف المتصارعة لا تترك للدبلوماسية التصالحية أيّ منفذ، ولا تترك لمحاولات التهدئة، حتى لو كانت بابوية، أيّ أمل بالنجاح.