عندما يغصّ بشّار بالاحتلال التركيّ

مدة القراءة 6 د

مرّة أخرى، يبدو ضرورياً التطرّق إلى التقارب التركي – السوري مع تركيزٍ على الأسباب التي تكشف أنّه مفتعل من جهة، ومحكوم بظروف معيّنة ذات طابع مؤقّت من جهة أخرى. يكفي للتأكّد من ذلك العودة إلى كلام لأحد مستشاري الرئيس رجب طيب إردوغان الذي يُدعى ياسين أقطاي. قال أقطاي بالصوت والصورة إنّ حلب يجب أن تكون “من حصّة تركيا”. ذهب إلى أبعد من ذلك عندما اعتبر أنّ سيطرة تركيا على حلب ضروريّة لعودة لاجئين سوريين موجودين في الأراضي التركية إلى سوريا “في ظروف آمنة”. حرص بعد ذلك على تأكيد أنّ كلامه يعكس وجهة نظر شخصيّة لا وجهة نظر الرئيس التركي وحزبه. لكنّ الرسالة التي أراد تمريرها، في شأن النيّات التركيّة، بلغت كلّ من يهمّه الأمر.

في المقابل، تحدّث رئيس النظام السوري بشّار الأسد، في أوّل تعليق له على ما سُمّي التقارب بين دمشق وأنقرة، عن أنّ اللقاءات السورية – التركية يجب أن تكون مبنيّة على إنهاء “الاحتلال”.

قال الأسد في لقاء مع ألكسندر لافرنتييف، المبعوث الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي جاء إلى دمشق من عمّان، إنّه كي تكون اللقاءات السورية – التركية “مثمرة” يجب أن تُبنى على “تنسيق وتخطيط مسبقين بين سوريا وروسيا من أجل الوصول إلى الأهداف والنتائج الملموسة التي تريدها سوريا”. اعتبر أنّ هذه اللقاءات يجب أن تؤدّي إلى “إنهاء الاحتلال ووقف دعم الإرهاب”.

يمارس إردوغان لعبة كبيرة تتجاوز بشّار الأسد الذي يدين بوجوده في دمشق للتدخّل المباشر الإيراني، عبر “الحرس الثوري” وميليشيات مذهبيّة تابعة للحرس، ثمّ لوجود قاعدة روسية في حميميم، قرب اللاذقيّة

يرفض بشّار وضع زيارة لافرنتييف في إطارها الحقيقي. يتجاهل أنّ الجانب الروسي في وضع لا يُحسد عليه في ضوء غرقه في الوحول الأوكرانيّة، وأنّ ضغوطه من أجل عقد لقاءات سوريّة – تركيّة، لا تخرج عن محاولته إظهار أنّه لا يزال موجوداً في سوريا، وأنّ لديه خيارات أخرى غير السقوط الكامل في الحضن الإيراني.

من هذا المنطلق، تحدّث البيان الرسمي السوري الصادر عن اللقاء بين الأسد ولافرنتييف عن التطرّق إلى الأوضاع الإقليمية والدولية، وتأكيد رئيس النظام السوري أنّ “المعركة السياسية والإعلامية هي على أشدّها الآن في العالم، واشتداد هذه المعارك يتطلّب ثباتاً ووضوحاً أكثر في المواقف السياسية”، مشيراً في هذا الصدد إلى “موقف سوريا الداعم للعمليّة العسكرية الروسية الخاصة في دونباس”.

يُفترض أن تكون لدى أيّ مسؤول، في أيّ بلد، ما يكفي من الحكمة لإعلان رفض الوقوف مع دولة معتدية على دولة أخرى، مع دولة تصرّ على اقتطاع قسم من أراضي الدولة الأخرى وضمّها إليها كما تفعل روسيا في تعاطيها مع أوكرانيا. في الواقع، لا يحقّ لبشّار المطالبة بإنهاء الاحتلال التركي حين يقف مع روسيا في حربها على أوكرانيا ورغبتها في احتلال قسم من أراضيها. مثلما نسي لواء الإسكندرون، يبدو أنّ عليه أن ينسى ما تفعله تركيا في شمال سوريا.

ليس التقارب السوري – التركي سوى طبخة بحص، وذلك بغضّ النظر عن احتمال حصول لقاء بين وزيرَيْ الخارجيّة في البلدين استكمالاً للقاء موسكو بين وزيرَيْ الدفاع بحضور وزير الدفاع الروسي وقادة الأجهزة الأمنيّة في سوريا وتركيا.

عندما يتحدّث بشّار الأسد عن “الاحتلال التركي”، فهو يقول سلفاً إنّه لا يريد التوصّل إلى تفاهم مع رجب طيب إردوغان المصرّ على أن تكون لتركيا كلمتها في تقرير مستقبل سوريا. من يقبل بالاحتلال الإيراني والاحتلال الروسي والاحتلال الإسرائيلي والاحتلال الأميركي لا يغصّ بالاحتلال التركي. كلّ ما في الأمر أنّ هناك أجندة تركيّة لا تتّفق مع أجندة النظام السوري. ترتبط الأجندة التركيّة قبل كلّ شيء بالانتخابات الرئاسية المقرّرة في حزيران المقبل. يتوجّب على إردوغان من أجل تعزيز وضعه الانتخابي إظهار أنّه مهتمّ بإيجاد حلّ لمشكلة السوريين الموجودين في الأراضي التركيّة. لا يستطيع الرئيس التركي إيجاد مدخل لمثل هذا الحلّ من غير تكريس وجود شريط تحت السيطرة التركيّة في عمق 30 إلى 35 كيلومتراً في عمق الأراضي السوريّة.

رئيس النظام السوري بشّار الأسد، في أوّل تعليق له على ما سُمّي التقارب بين دمشق وأنقرة، عن أنّ اللقاءات السورية – التركية يجب أن تكون مبنيّة على إنهاء “الاحتلال”

يمارس إردوغان لعبة كبيرة تتجاوز بشّار الأسد الذي يدين بوجوده في دمشق للتدخّل المباشر الإيراني، عبر “الحرس الثوري” وميليشيات مذهبيّة تابعة للحرس، ثمّ لوجود قاعدة روسية في حميميم، قرب اللاذقيّة. هذه اللعبة الإردوغانيّة مرتبطة باستخدام الروسي ورقة ضغط في أيّ مفاوضات مع الأميركيين. إضافة إلى ذلك، هناك الهاجس الكرديّ المتمثّل في “قوات سوريا الديمقراطيّة” (قسد) وارتباطها بالوجود العسكري الأميركي في شمال سوريا. لا يستطيع إردوغان تجاهل هذا الهاجس بسبب الخوف الدائم من الأكراد ووزنهم في داخل تركيا نفسها.

تبقى نقطة أخيرة مهمّة تتعلّق بالموقف الإيراني. لا يمكن لبشّار الخروج من تحت العباءة الإيرانيّة. تصرّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” التي أحكمت قبضتها على مناطق سوريّة معيّنة، في ضوء الضعف الروسي، على معرفة كلّ شاردة وواردة في ما يخصّ لقاء موسكو السوري – التركي – الروسي، وأيّ تحرّك لبشّار في أيّ اتّجاه كان، بما في ذلك عربيّاً.

إقرأ أيضاً: مكاسب دمشق من مصالحة إردوغان

ليست زيارة حسين أمير عبد اللهيان لبيروت، تمهيداً لزيارة دمشق، إلّا من أجل تأكيد أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” ما زالت قويّة ولديها أوراقها الممسكة بها جيّداً في سوريا ولبنان والعراق واليمن. توجِّه الزيارة رسائل إيرانيّة في اتّجاهات مختلفة، بينها رسالة إلى الكرملين وما يعمل على ترتيبه بين سوريا وتركيا في سياق إظهار أنّه لا يزال لاعباً فاعلاً في المنطقة.

فحوى الرسالة أن لا شيء يمكن أن يحصل في سوريا، كذلك في العراق ولبنان واليمن، من دون إيران. لا تقارب سوريّاً – تركيّاً من دون دور مباشر لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”. بكلام أوضح، جاء عبد اللهيان إلى بيروت، ثمّ انتقل إلى دمشق، ليطمئن “حزب الله” إلى أنّ كلّ شيء على ما يرام في إيران، التي لم يتأثّر النظام فيها بالغليان الشعبي المستمرّ منذ أربعة أشهر. وحدها الأسابيع المقبلة ستظهر هل هذا الافتراض صحيح أم لا!

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…