يعتبر المقرّبون والعارفون بالموقف الفعليّ للقيادة السورية أنّ “المكاسب” التي يحصل عليها النظام السوري من الاجتماعات مع القيادة التركية عديدة وعلى مستويات مختلفة. وتندرج في هذا السياق الاجتماعات الثلاثية، سواء تلك التي عُقدت بعيداً من الأضواء أو العلنية، كحال اجتماع وزراء دفاع روسيا وتركيا وسوريا وقادة أجهزة استخبارات الدول الثلاث في موسكو في 28 كانون الأول الماضي، الذي تمّ بشروط دمشق. لكنّ بعض المراقبين يرون أن النظام السوري يستعجل خطى التطبيع.
اعتراف بشرعيّة الأسد واستيعاب المعارضة؟
في سرد مكاسب تمكّنت دمشق أن تجنيها من هذا التقارب، يشير العارفون إلى الآتي:
1- الاجتماع مع الجانب التركي وصولاً إلى اللقاء بين الأسد وإردوغان لاحقاً، بعد اجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث، يعني أنّ الرئيس التركي يعترف بشرعيّة الأسد التي طالما تشكّك فيها.
2- موقعا الرئيس التركي السنّيّ وتركيا الدولة المحوريّة السنّيّة في المنطقة يجعلان اعتراف إردوغان بشرعية الرئيس السوري تسليماً بأنّه لم يربح الحرب التي خاضها لتغييره، فضلاً عن أنّ تطبيعه مع دمشق يكسر المعارضة ويُظهر تخلّيه عنها.
3- دخول طرف سنّيّ وازن في الإقليم يعني انخراط طرف ثالث في الوضع السوري غير الطرف الإيراني. وهذا يشكّل مكسباً للأسد ينزع عنه تهمة التعاون مع طهران وحدها، خصوصاً أنّ أنقرة قادرة على التأثير في المعارضة السورية، ولا سيّما السنّيّة، من أجل استيعابها وضبطها.
يعتبر المقرّبون والعارفون بالموقف الفعليّ للقيادة السورية أنّ “المكاسب” التي يحصل عليها النظام السوري من الاجتماعات مع القيادة التركية عديدة وعلى مستويات مختلفة
تشجيع الدول السنّيّة على الانفتاح
4- انخراط أنقرة السياسي في الوضع السوري وبناء علاقة مع “الحكم الشرعي” من موقع الدولة السنّيّة الكبرى في المنطقة، قد يشجّعان الدول العربية الأخرى السنّية، ولا سيّما الخليجية، على الانخراط أكثر في العلاقة مع الحكم السوري، كي لا تترك الساحة خالية لتركيا وإيران. وربّما يساعد التطبيع السوري – التركي المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة على الخروج من حال التردّد في هذا المجال.
5- ستنعقد دورة مجلس الجامعة العربية المقبلة، والقمّة العربية المنتظرة في 2023 في الرياض، بعد قمّة الجزائر في تشرين الثاني الماضي. وتعلّق دمشق آمالاً على أن تتيح الأشهر المقبلة إيجاد صيغة تسمح للقيادة السعودية بالعمل العربي المشترك، الذي يعيد حدّاً أدنى من التضامن العربي ولو بدعوة سوريا على مستوى مراقب إلى القمّة.
باب تواصل مع أوروبا وأميركا
6- أنقرة عضو في حلف الناتو. وهذا قد يفتح الباب أمامها كي تلعب دوراً بين دمشق وواشنطن في حال تطوّرت الأمور إيجاباً معها، فتفتح خطّاً تفاوضياً أو قناة خلفيّة بين القيادة السورية والجانب الأميركي.
7- التفاهم مع إردوغان على إعادة النازحين التي يطرحها الرئيس التركي حجّة للعملية العسكرية التي يلوّح بها منذ أشهر، إضافة إلى إبعاد الميليشيات الكردية لحفظ أمن حدود تركيا، يفتح الباب على البحث في تمويل أوروبي (وعربي) لبناء البنية التحتية السورية لتحقيق عودة النازحين. فأوروبا، حسبما يدور في الأوساط السورية القيادية، يهمّها أن يبتعد النازحون من تركيا عن حدودها.
ورقة رابحة للعلاقة مع بوتين
8- التقارب مع تركيا يسلّف الرئيس الروسي ورقة يطلبها بإلحاح من دمشق في ظلّ الصعوبات التي يسعى إلى تذليلها في حربه على أوكرانيا والحصار الغربي عليه. وهذا من خلال مسارات عدّة يفتحها مع تركيا إردوغان. فالكرملين يتّكل على الدور التركي الذي حوّل إسطنبول ومعبر البوسفور المائي إلى مسرب لتوريد النفط والغاز والحبوب وسائر البضائع الروسية الخاضعة للعقوبات، مع ما يعنيه ذلك من خرق للحصار الاقتصادي على موسكو.
9- ورقة المصالحة مع إردوغان تساعده على مواجهة معارضيه في الانتخابات التشريعية والرئاسية في الربيع المقبل. ويساهم تجاوب دمشق مع الطلب الروسي في تحسين وضع إردوغان الانتخابي بمواجهة معارضيه الذين نجحوا نسبياً في التأثير على شعبيّته من خلال تحميله مسؤولية تدهور الوضع الاقتصادي بسبب كلفة تدخّلاته العسكرية في الخارج وعبء النازحين السوريين في الداخل. وهذا يمكّن إردوغان من النجاح في الانتخابات يريح الكرملين، لأنّ رموز المعارضة التركية سيكونون مزعجين لقيصر روسيا بسبب ميولهم الأميركية أكثر من حكم إردوغان. وفوزهم على رئيس “العدالة والتنمية” سيبعد أنقرة عن موسكو قياساً إلى التعاون القائم حالياً بينهما في سياق تداعيات الحرب في أوكرانيا. والأرجح أنّ دمشق تراهن على أن تحصل على مقابل من بوتين إذا نجح إردوغان في الانتخابات. فالملفّات متراكمة بينها وبين موسكو التي تطالبها بردّ جزء من الديون، وتضغط عليها لتسهيل مفاوضات جنيف من أجل الحلّ السياسي في سوريا في إطار اللجنة الدستورية في جنيف.
تشكّل خطوة المصالحة بين الأسد وإردوغان، وفق البعض في دمشق، ورقة رابحة لبوتين، على الرغم من المواقف السورية الرسمية التي تطرح شروطاً من نوع بيان الرئاسة السورية الذي صدر أول من أمس في 12 كانون الثاني واعتبر أنّ “اللقاءات السورية – التركية برعاية روسيا يجب أن تكون مبنيّة على إنهاء الاحتلال” التركي كي تكون مثمرة، فيما تسرّب أنّ اجتماع وزراء دفاع روسيا وتركيا وسوريا في موسكو بحث تسيير دوريّات مشتركة من الجيوش الثلاثة في بعض مناطق الحدود التركية السورية.
تشكّل خطوة المصالحة بين الأسد وإردوغان، وفق البعض في دمشق، ورقة رابحة لبوتين، على الرغم من المواقف السورية الرسمية التي تطرح شروطاً من نوع بيان الرئاسة السورية
لا مكاسب اقتصاديّة
اللافت أنّ بيان الأسد أول من أمس الخميس جاء بالتزامن مع محادثاته مع المبعوث الرئاسي الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف الذي التقى الرئيس السوري وشدّد على “ضرورة التنسيق المسبق بين دمشق وموسكو? لعقد اللقاءات الثلاثية بين سوريا وروسيا وتركيا لضمان الوصول إلى الأهداف التي تريدها سوريا من هذه اللقاءات، انطلاقاً من الثوابت والمبادئ الوطنية للدولة والشعب المبنيّة على إنهاء الاحتلال ووقف دعم الإرهاب”.
يستبعد الذين يرصدون مسار استعادة العلاقة السورية – التركية بعد 11 سنة من القطيعة أن تستفيد دمشق المأزومة من انفتاحها على أنقرة في الحصول على المحروقات والموادّ الغذائية والحبوب، فالجانب السوري عينه على المكاسب السياسية التي يوفّرها هذا الانفتاح. والحديث عن إمكان حصول استثمارات تركية في شمال بلاد الشام تحت عنوان عودة النازحين قد يتضمّن مبالغة. والاعتقاد الأرجح هو أنّ الجانب التركي أقدر على الإفادة الاقتصادية من هذا الانفتاح. فأنقرة تزوّد مناطق أعزاز ومنبج وبعض محيط مدينة حلب بالتيار الكهربائي منذ مدّة مقابل بدل مالي. وفي حال تطبيع العلاقة سيُغرق التجّار الأتراك مناطق الشمال السوري ببضائعهم أكثر.
تأجيل اجتماع وزراء الخارجيّة وأوغلو في واشنطن
لكن يبقى السؤال عن مدى سلاسة نجاح التطبيع في وقت يشدّد الجانب التركي على وجوب إحداث تقدّم في الحلّ السياسي استناداً إلى القرار الدولي الرقم 2254 الذي يتناول قيام حكم انتقالي؟ تتصرّف دمشق على أساس أنّ هذا القرار بات في حكم الميت. فقد أمعنت في المناورات التي أفشلت جولات التفاوض الثماني على الدستور الجديد بإشراف المبعوث الدولي غير بيدرسون، وأغرقت اجتماعاتها في جدل خارج عن نطاق جدول أعمالها. وتراوحت مواقف موسكو حيال السلوك السوري بين الضغط لتسهيل عملها والانزعاج من المراوحة في أعمالها، وبين الاكتفاء بمراقبة التسويف الذي طبع أعمالها، ولا سيّما بعدما طالت الحرب في أوكرانيا وتصاعد الصراع مع دول الغرب وأميركا.
إقرأ أيضاً: لقاء الأسد – أردوغان: محاصرة “قسد”… وفقط؟
لكنّ العقبة الأساس في مسار التطبيع تكمن في الاعتراض الأميركي الصريح عليه، وصولاً إلى التلويح بإخضاع الدول التي تنخرط فيه لعقوبات قانون “قيصر”. وجاء التلويح بذلك بعد الأنباء عن عقد لقاء يجمع وزراء خارجية الدول الثلاث منتصف الشهر من جهة، وبعد زيارة وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ عبد الله بن زايد لدمشق من جهة ثانية. إلا أنّ وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أعلن تأجيل اجتماع وزراء الخارجية إلى الشهر المقبل، لأنّه سيزور الثلاثاء المقبل واشنطن حيث سيلتقي وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، فيما سيكون نظيره الروسي منشغلاً بجولة خارجية على مدى أسبوع. وهكذا تبرّر أجندات أنقرة وموسكو التأجيل.
لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@