كما لا تقيم الكلمة في الحبر بل على أطراف أصابع كاتبها، وكما لا يقع الترف مثل حجر نيزكيّ من السماء بل ينبت كشجرة تفّاح في حقل شاسع النضارة، لا يقيم المعنى الحقيقي للوطن في الأناشيد الحماسيّة المتفائلة، ولا في الكتب المدرسية التي أذاقتنا طعم الخسارة قبل سنّ البلوغ.
الوطن المذبوح
في وقت مبكر اكتشفنا بأسى أنّ الوطن كلمة. لكنّ إبرته المغروسة في العين موجعة. فكلمة تراها هي غير تلك الكلمة التي تتخيّلها. كان الوطن ذهبياً على الورق. لكنّه لم يكن سوى صفائح من التنك في الواقع. وفي أرواحنا قامت معركة مضحكة بين الوطن الذي نتنفّس هواءه وبين صورة الوطن على الخريطة. ولأنّ أسباب الحبّ كثيرة كان الوطن حين يغالي يعبّر عن نفسه بخروف مذبوح. وأمّا حين يتواضع فكان رأس ذلك الخروف يُصنع وجبة غذائية لطالما هام بها العراقيون حبّاً، وهي “الباجة”. لم يكن العراقيون نباتيين على الرغم من شغفهم بوجبة “الباقلاء بالدهن” التي تُعتبر إفطاراً تقليدياً في مدن عراقية كثيرة.
كانت هناك مواطنة تقيم تحت الخبز وفيه. وفي منافيهم يبحث العراقيون عن الخبز ليتأكّدوا من أنّهم لا يزالون مواطنين عراقيين. وهذا يشكّ فيه كثيرون، لا من جهة قلوبهم، بل من جهة إبرة البوصلة التي صارت تدور بطريقة عبثية، كما لو كانت الجهات كلّها قد امتزجت واختلطت.
أخذ الوطن ما أخذه من أعمارنا. أخذ عطر زهرتها ولم يهبنا شيئاً. أما كان على الوطن أن يكون على شيء من الكرم؟ وهبناه الرمق الأخير من شبابنا ولم يعدنا بجنّة يستحقّها خيالنا
يرضى العراقي بأن يعود إلى هديل الحمام الذي حُرم من سماعه. مشهد النوارس البيضاء وهي ترتطم بمياه دجلة تحت جسر الجمهورية لا يغادر العين. زرقاء كانت مياه دجلة كما لو أنّ المغول لم يغرقوها بالحبر الذي كُتبت به آلاف الكتب التي شيّدت أساساً للعقل العربي. ومن المفجع أن تكون العاطفة هي التي تشدّنا إلى ذلك المشهد لا العقل. “لو كان العقل رجلاً لقتلناه”، يقول فقيرو الخيال وهم يشيدون أبراجاً وهميّة يسعون من خلالها إلى منافسة النمرود حين سعى إلى التقاط قرص الشمس التي وضعها بدر شاكر السيّاب بين قوسين، حين كتب “الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام/ حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق”.
نواح أبديّ
ولأنّ عراقياً مضطرباً مثلي يدرك أنّ الروائح صارت تمشي بقدميه، صارت عاطفته أسيرة نواح أبديّ، وسيظلّ محروماً من سماع هديل الحمام البغدادي، ولن توقظه شمس من نومه على سطح الدار في ليلة صيفية. فالشمس التي كانت أحلى لم تعد ناعمة. هناك بكاء داخلي لا يمكن لجغرافيا الفضاء سوى أن تتفاعل معه في لحظة إشفاق. صرنا مكشوفين يا وطني مثلما لم نكن في الماضي.
أخذ الوطن ما أخذه من أعمارنا. أخذ عطر زهرتها ولم يهبنا شيئاً. أما كان على الوطن أن يكون على شيء من الكرم؟ وهبناه الرمق الأخير من شبابنا ولم يعدنا بجنّة يستحقّها خيالنا.
مَن خان الآخر؟
أتذكّر أنّ محمد الماغوط عنون أحد كتبه “أخون وطني”. ويحقّ لي أن أخون وطني من أجل رائحة الشجر وهديل الحمام في سوق الغزل، ومرأى طيور اللقلق على برج الكنيسة وضجّة الصفّارين والصراخ في سوق هرج، ورائحة التوابل في الشورجة، وصوت أم كلثوم في مقهاها وأسطوانات جقمقجي وهي تدور، وسينما الحمراء التي تعرض فيلم ترينتي ونصب الحرية الذي يطلّ على حديقة الأمّة، وعربات الكتب التي تقف أمام مدرسة الراهبات.
كيس على الظهر
أحياناً يسألني موظّفو الجوازات في المطارات العربية عن مواطنتي السابقة. هذا ما لا يفعله أحد في أيّ مطار في العالم. على ذاك السؤال التفتّ إلى الوراء كما لو أنّ الوطن كان عبارة عن كيس وهميّ أحمله على ظهري. لم أجرؤ يوماً على مدّ يدي إلى داخل ذلك الكيس لأتحسّس محتوياته.
الشمس التي تغنّى بها السيّاب كانت حارقة، وليس من حقّي أن أقول إنّ رائحة المطر كانت هي أفضل ما فيه. كان المطر يمنعني من الذهاب إلى المدرسة. ذلك وطن يُمكن أن يُحَبّ شرط أن يكون من غير مطر. هل ألوم السيّاب أم ألوم الوطن؟
إقرأ أيضاً: شرق أوسط جديد بنسخة روسيّة
كان عليّ في لحظات الضجر أن أعبث بيأس في محتويات ذلك الكيس الوهمي. شيء من الجغرافيا يقنعني أنّ التاريخ فشل في تفسير ما جرى لي باعتباري رجلاً لا يعبأ بالزمن. كانت الجغرافيا أهمّ شرطيّ مرور يقف في ساحة حافظ القاضي في مواجهة جسر الأحرار قريباً من المصوّر الأهلي من جهة اليمين وأورزدي باك من جهة اليسار، وهو أهمّ من قصور بني العبّاس التي هدمها المغول. وكان عليّ أن أمشي إلى “المربعة” بخطى الشابّ الذي يرغب في رؤية مارلين مونرو في فيلمها “البعض يريدونها ساخنة”، الذي يُعرض في سينما الزوراء. لست أتذكّر بل أحيا. فالنسيان هو الآخر له ذاكرة تُذكّر بحياة عشتها. إلى أن ينتهي الفيلم سأظلّ مشدوداً إلى فكرة الوطن الذي انتصر عليّ بجمال نسائه.
*كاتب عراقي