يُعتبر المستعرِب الفرنسي أندريه ميكايل، المولود في جنوب فرنسا سنة 1929، والذي رحل عن عالمنا قبل أيام في 27 كانون الأول الفائت (2022)، من كبار الباحثين في حضارة الإسلام، أمثال ريجيس بلاشير، جاك بيرك، ومكسيم رودنسون وغيرهم.
في فرنسا يعد ميكايل مرجعًا في الأسلاميات. وانتخب سنة 1975 أستاذ كرسي الآداب العربية في الكوليج دو فرانس. وهو وضع كتابًا في عنوان “محاورات بغداد” في عهد الخليفة المأمون الدي يعتبره تنويريًا. ودرس أوجه التشابه والاختلاف بين الديانات الإبراهيمية الثلاث. ووضع كتابًا عن يومياته أثناء إقامته في القاهرة ملحقًا ثقافيًا في السفارة الفرنسية عنوانه “وجبة المساء”.
لمناسبة رحيله نستعيد هنا مقابلة خاصة أُجريت معه بعد صدور كتابَيْه عن الشاعر العربي الجاهلي مجنون ليلى تحت عنوان “ليلى يا عقلي”. وكان ميكايل وضع الموسوعة الأهمّ عن “جغرافية الإسلام البشرية” في ثلاثة أجزاء. وهذه المؤلّفات مترجمة إلى العربية.
يُعتبر المستعرِب الفرنسي أندريه ميكايل، المولود في جنوب فرنسا سنة 1929، والذي رحل عن عالمنا قبل أيام في 27 كانون الأول الفائت (2022)، من كبار الباحثين في حضارة الإسلام
هو يتحدّث في هذه المقابلة عن:
– عوامل انتشار الإسلام في الجغرافيا البشرية القارّية العالمية بواسطة الفتوحات والتجارة.
– مفهوم الفتح بوصفه دعوة إلى الدخول في الدين التوحيدي الجديد. القرآن وإعجازه بين الشعر والنثر.
– الإسلام والمسيحية الشرقيّة.
– الخلاف بين السُّنّة والشيعة.
وهنا مقتطفات من تلك المقابلة:
قد لا يدرك الوعي الغربي الشائع ذلك الخيط الذي يصل بين عوالم الإسلام وما يجمع بينها، فيرى أنّها تواجه الخارج دينياً، مفترضاً أنّ الإسلام يقف وينهض ضدّ الغرب. كيف تستطيع أنت الغربي والمختصّ في الإسلام أن تبدّد شيئاً من هذه المخاوف؟
– لنبدأ من فكرة عدم وجود سلطة كهنوتية في الإسلام مثيلة لتلك التي نشأت في المسيحية. أمّا الاختلاف بين السُّنّة والشّيعة فلا يُترجم بالضرورة انشقاقاً داخل الإسلام. وإذا أردنا نستطيع أن نضع السُّنّة في مواجهة الشّيعة، لكن علينا أن ننسى أنّهم مسلمون. ويمكن القول إنّ الإسلام اليوم ما يزال يعيش نفس المسألة التي طُرحت وقت موت الرسول: لدى السُّنّة خُتمت الرسالة بالقرآن الذي إليه وإلى المثال الذي قدّمه النبي وصحبه في الحديث تعود أمور الحكم في الحياة اليومية، ولدى استحالة ذلك يُحتكم إلى الجماعة. وفي الواقع تجري العودة إلى اجتهاد العلماء الذين يمتلكون المعرفة الدينية. إذاً الرسالة خُتمت لدى السُّنّة، والسلطة تعود نظرياً إلى من تختاره الجماعة وتجد فيه الكفاءة التي لا تنفصل عن حيثيات التاريخ. فأحياناً كانت عائلات معيّنة تحتكر هذا الموقع. فالتاريخ هو التاريخ، وله دوره الكبير على الدوام.
أمّا الجوهريّ في الاختلاف بين السُّنّة والشّيعة، وهو يتعلّق بالممارسة السياسية عبر التاريخ، فيقوم على أنّ السُّنّة يضعون سلامة الجماعة، وحدتها ومصلحتها، قبل أيّ شرعية أخرى قائلين: إذا كانت السلطة عادلة وتطبّق الشريعة الإسلامية، وحتى لو كانت شرعيّتها منقوصة، فسلامة الجماعة والحفاظ على تماسكها ومصلحتها تقتضي الاعتراف بتلك السلطة. أمّا الشّيعة فيعتبرون أنّ هنالك استمراراً للرسالة عبر عائلة النبي. فالشّيعية الإيرانية تعتبر أنّ الرسالة مستمرّة مع الأئمّة الاثني عشر. وهنالك الشّيعة الذين يعتبرون أنّ الرسالة ما تزال مستمرّة مع عائلة “الآغا خان” المتحدّرة من عائلة النبي. أمّا من حيث الممارسة السياسية، وهذا ربّما يكون مهمّاً لفهم ما يجري اليوم، فالشّيعية تضع شرعية السلطة في المصافّ الأوّل من الأهميّة. وهذه هي النقطة الجوهرية في الاختلاف بين السُّنّة والشّيعة.
أتوقّف هنا لأقول إنّ هناك مدارس واتّجاهات داخل السُّنّة والشّيعة أيضاً. وهذا يدفعنا إلى الذهاب بعيداً. وأنا لست اختصاصياً في ذلك. لكنّني أستطيع القول إنّ الشّيعة والسُّنّة ينتمون إلى دين واحد ويجتمعون على أركانه الأساسية: الإيمان، الصوم، الحجّ، الصلاة.. إلخ.
كان المشرق قبل الإسلام يحمل صورة محدّدة وصارمة عن الألوهة. وهذا ما يفسّر ما جرى في الشرق الأوسط آنذاك
توحيد إلهيّ صارم
أمّا حين يتساءل الأوروبيون لماذا يستمرّ الإسلام اليوم وأين يستمرّ، فأجيب أنّ أسلحة الإسلام الأساسية ظاهرة في ثلاثة مجالات:
– عرف الإسلام كيف يزاوج في رسالته بين ما أسمّيهما البساطة والكرامة. أمّا الرسالة المسيحية فليست بسيطة، لا في صوغها ولا من حيث الاعتقاد بها. فمسألة وجود إله واحد في ثلاثة أقانيم تنبع من ممارسة أخرى مختلفة عن الممارسة العقلية. أمّا الإسلام فقدّم نفسه في توكيد صارم على الوحدة الإلهية، وببساطة كدين عزّة الله.
– المجال الثاني هو أنّ الدين الإسلامي يستند إلى بُنى قويّة جداً. فاعتناق الإسلام يعني مباشرة الانتماء إلى جماعة تسعف من ينتمي إليها حين يحتاج إلى ذلك.
– المجال الثالث تاريخيّ ومهمّ أكثر من الأوّلَيْن: الإسلام دين شعوب مستمرّة في التاريخ المعاصر، وطالبت باستقلالها وحصلت عليه. وهذا ما يجعل انتماءها إلى الإسلام يستتبع تأويله دينَ أناس أحرار روحيّاً تاريخيّاً. لذا يتّخذ التوكيد الديني في إيران القوّة التي نراها اليوم. ونستطيع أن نتأكّد من ذلك بغضّ النظر عن الشكل الذي اتّخذه ذلك التوكيد الديني. فالثورة الإيرانية لم تفصل أبداً الإسلام عن العودة إلى الأصول في ما يخصّ استعادة الحرّية في مواجهة الغرب الذي كان الشاه الإيراني يمثّل وجهه.
الإسلام والمسيحيّة الشرقيّة
لكن كيف يستطيع العقل الغربي الشائع أن يدرك الفارق الجوهري بين “الغزو” أو “الاحتلال” أو “الفتح”؟ ما الذي جعل الدعوة الإسلامية تعمّ وتنتشر في الأقاليم التي وصلت إليها منذ بدء الدعوة في القرن السادس الميلادي؟
– عندما نعود إلى الحديث عن “الفتح” العربي الإسلامي علينا أن ننتبه إلى أنّ “الفتح” في الشريعة الإسلامية ليس له معنى “الغزو”. فاللغة العربية الكلاسيكية لديها العديد من الكلمات لقول ما نسمّيه باللغة الفرنسية “Conquete”. لكنّها بالعربية الكلاسيكية تعني حرفيّاً “الفتح”، أي فتح العالم على الإيمان، وليس الغزو والاحتلال. وربّما يقول بعض الفرنسيين إنّ هذا التعبير فيه شيء من النفاق. لكنّني أقول، من دون أن أحكم، إنّ هذه الكلمة هي المستعملة لتعيين هذا النوع من الحركات.
يمكننا هنا العودة إلى الحدث التاريخي مع بداية الإسلام لنتساءل: كيف أمكن لهذه الظاهرة أن تنتشر في كلّ تلك البلاد الشاسعة التي تشكّل اليوم البلاد الإسلامية، أو العالم الإسلامي؟ هل من الممكن الاعتقاد أنّ ذلك الانتشار حصل بقوّة مئة شخص (الذين هم صحابة النبي الأوائل)؟
من المؤكّد أنّ هنالك شيئاً آخر. ومن الممكن تصوّر ما جرى على الشكل التالي:
– في الشرق الأوسط حيث انتشر الإسلام لم يكن العرب، الذين يراهم الغربيون كائنات بعيدة، وتعلّمنا في المدارس أنّ اجتياحهم أوروبا كان آخر الاجتياحات، غرباء عن الشرق الأوسط.
– كان المشرقيون يعرفونهم جيّداً. فهم كانوا قد أنشأوا ممالك في مدن عدّة. وكانت هنالك سلالات عربية حاكمة. لم يكن العرب إذاً غرباء في سوريا والمشرق عموماً.
في الشرق الأوسط حيث انتشر الإسلام لم يكن العرب، الذين يراهم الغربيون كائنات بعيدة، وتعلّمنا في المدارس أنّ اجتياحهم أوروبا كان آخر الاجتياحات، غرباء عن الشرق الأوسط
– كان المشرق قبل الإسلام يحمل صورة محدّدة وصارمة عن الألوهة. وهذا ما يفسّر ما جرى في الشرق الأوسط آنذاك: الصعوبات اللامتناهية التي واجهت الإمبراطورية البيزنطية في فرض المسيحية المثلّثة الأقانيم الألوهيّة. وهذه كانت ظاهرة مدنية. أمّا الأرياف العميقة فلم تتأثّر أبداً بها، بل على العكس تأثّرت بدعوات وبدع أخرى تتحدّث كلّها عن طبيعة الإله الواحد. وهنالك المشكلة الصعبة: طبيعة المسيح والله الحقيقي واللامرئي دائماً والذي يتحدّث إلى البشر من دون أن يظهر لهم حسب الاعتقاد الشرقي. وهذا هو جوهر الخلاف بين بيزنطة والمسيحيين الشرقيين الذين رأوا أناساً يعرفونهم، أي العرب، يأتون إليهم من الصحراء بقوّة أكبر من المعتاد، ويهزّون أركان الدولة البيزنطيّة التي لم يكن أحد يحبّها. فالعرب اقترحوا عليهم رسالة دينية غير مختلفة في جوهرها عن المسيحية الشرقية.
لذا حدث الفتح العربي – الإسلامي في مصر وسوريا بتلك السهولة. أمّا في إيران فهناك سبب آخر: كانت الدولة الفارسية تعيش أزمة اجتماعية حادّة جدّاً، وصراعاً قاسياً بين أرستقراطية المدن ونبلاء الأرياف من جهة، وعامّة الشعب الإيراني من جهة أخرى. وفي تلك اللحظة وصلت إلى هناك الجيوش العربية – الإسلامية وأناسٌ يحملون رسالة مساواة بين كلّ الناس. وأنا أعتقد أنّ رسالة المساواة التي حملها الإسلام كانت السبب الأساسي في اعتناق الإيرانيين هذا الدين.
جغرافية الإسلام بين الفتح والتجارة
لكنّ هناك عوامل أخرى كثيرة:
– حماسة واندفاع محاربي الإسلام الأوائل. والعبقرية الأصليّة للقيادات العسكرية الأولى في الإسلام، والتي انضم إليها محاربون محليّون كثيرون. وأصبح الإسلام كبقعة زيت راحت تنتشر.
– المدن العديدة التي فتحت أبوابها للمحاربين المسلمين فدخلوها بلا قتال. وهذه هي حالة كلّ المدن المصرية مثلاً، وسكّان السواحل الذين كانوا في خدمة بيزنطة، وانقلبوا عليها سريعاً وانضمّوا إلى الإسلام. هذا ما جعل أحد القيادات العسكرية البحرية الإسلامية، وهو لم يكن قد خرج من الصحراء قطّ، يجد نفسه أميرالاً على رأس أساطيل إسلامية كان شطر كبير منها سوريّاً ومصريّاً تحت إمرة بيزنطة، فاعتنق بحّارتها الدين الجديد وأخذوا ينشرونه حتى القسطنطينية.
– هكذا انتشرت الدعوة الإسلامية، وليس كما يتصوّر البعض أنّ عصابات وجيوشاً من ألوف مؤلّفة انطلقت من صحراء الجزيرة العربية واحتلّت بلاد الشرق الأوسط.
– أمّا المغرب فنعلم أنّ ليبيا اختُرقت انطلاقاً من مصر، فعرفت بنغازي الإسلام. ولكن من ذهب إلى هناك لم يبقَ هناك، بل عاد من حيث أتى، وانضمّ السكّان المحليون إلى الإسلام.
– يعرف الأوروبيون أنّ من فتحوا إسبانيا ليسوا العرب، بل البربر المسلمون بقيادة بعض العسكريين العرب.
– في العراق كان الدور الأساسي للسكّان المحلّيين. وانطلاقاً من إيران، كان الدور الأساسي للخراسانيين في التقدّم نحو آسيا الوسطى… إلخ.
– لكنّ هناك أيضاً تاريخاً آخر غير التاريخ الحربي: تاريخ التجارة، أي “التجّار-المبشّرين”. فقبل قرنين من وصول الإسلام “حربيّاً” إلى الهند كان هناك نصٌّ هو “قصّة السندباد البحريّ”، واسمه أيضاً: “علاقة الصين بالهند”. وهو يحدّثنا عن جماعات التجّار المسلمين في سنة 850 م. كانت تلك الجماعات الإسلامية تجيد التجارة البحرية بامتياز. وهذا يقيم تاريخاً آخر لبدء الإسلام في الهند وسواها من البلدان. وبناء على تاريخ التجمّعات التجارية الإسلامية أُسّست إمارات إسلامية. لذا علينا ألّا ننسى هذه “البنية التحتية التجارية” التي كانت من ثوابت التاريخ الإسلامي.
كان للشعر الحظّ الأوفر في الإسلام. وهذه مسألة مفارقة: استبعاده وتهميشه وعدم إيلائه الأهميّة جعلت منه أسلوباً في قول كلّ شيء، بدل التجريب الأسلوبي في النثر
مجنون ليلى: سيرة روائيّة
ما الذي دفعك إلى كتابة كتابين دفعة واحدة عن مجنون ليلى؟!
– قبل كلّ شيء أنا لست مختصّاً في الدراسات الإسلامية (Islamologue)، ولست “مستشرقاً” أيضاً. واسمح لي هنا أن أعبّر عن كرهي لهذا المصطلح. أنا “مستعرب”، أي أقوم ببحوث عن الأدب العربي الكلاسيكي، والحديث أحياناً.
يعود هذا إلى زمن بعيد حين كان عمري 17 سنة وأتابع دراستي في مدينة مونبلييه، وملت ميلاً فولكلورياً إلى الحضارة العربية الإسلامية. وكان أساس ذلك الميل جاذبية الشرق التقليدي، شرق الصحراء، رقص حلقات التصوّف، مآذن الجوامع… وهذا أسوأ ما في المخيّلة الغربية التقليدية. لكن مع بدئي بقراءة الترجمة الفرنسية للقرآن وبعض الأشعار العربية المترجَمة، حين دخلت مدرسة إعداد المعلمين العليا، توجّهت إلى اللغات الشرقية، الفارسية ثمّ العربية، بدل دراستي اللغات اليونانية واللاتينية. وبعد عودتي من مصر سنة 1962، تعمّقت في دراسة الحضارة والأدب العربيَّين. درست سيرة قيس بن الملوّح، الذي هو “مجنون ليلى”. فوضعت أنطولوجيا صغيرة عنه، وكتبت سيرة روائية له، لأنّها سيرة جميلة لا يعرفها القرّاء الفرنسيون.
الشعر والنثر والقرآن
في دراسة لك عن سيرة أسامة بن منقذ لاحظت فيها أنّ كاتباً مسلماً يكتب بصيغة “الأنا” للمرّة الأولى. هل تعتقد أنّ “الأنا” تغيب عن الأدب العربي الكلاسيكي برمّته؟
– قلت إنّه ليس هنالك “أنا” في النثر. لم أقُل هذا عن الشعر. فإذا حذفنا الأنا من الشعر العربي لا يعود هنالك من شعر.
عندما بدأ الرسول يبلّغ رسالته واجهه كثيرون بالسخرية منه، قائلين: “إنّك تتكلّم كالشعراء”. وكان الشعراء غير حسني السمعة في قيم ذلك الزمن. لذا حذر واحتاط إسلام البدايات، إسلام مكّة والمدينة، من الشعر الذي قدّم أسلحة لأعداء الرسول.
أمّا النثر الأساسي في تلك الفترة فكان نثر القرآن. ولغة القرآن لا هي بالنثر ولا هي بالشعر. بل هي لغة نثر فريد لأنّها قائمة على الإعجاز. هذا يعني أنّ كلّ من يأخذ قلماً ليكتب النثر عليه أن يكتب ليقول شيئاً محدّداً. أمّا إذا حاول ممارسة كتابة أسلوبية، فعليه التنبّه إلى ذهابه في مغامرة مدانة سلفاً، ذلك لأنّه لا يستطيع أن يكتب كما كتب الله. والمحاولة هذه موصومة بالكفر أصلاً.
لذا ازدهر الشعر الذي استُبعد في البداية، وأخذ يستمرّ في قول كلّ شيء، ومنه شعر عمر بن أبي ربيعة الذي يروي مغامراته الغرامية أثناء الحجّ في مكّة. أليس هذا قاسياً؟!
لقد كان للشعر الحظّ الأوفر في الإسلام. وهذه مسألة مفارقة: استبعاده وتهميشه وعدم إيلائه الأهميّة جعلت منه أسلوباً في قول كلّ شيء، بدل التجريب الأسلوبي في النثر. وحفاظاً على نقاء الرسالة النبوية وصفائها، قيل إنّ الشعر لا يهمّ الإسلام. ومن هنا كانت حرّية الشعراء.
أمّا الناثرون فكان وضعهم على عكس الشعراء تماماً. كان عليهم أن يكتبوا بجدّية ورصانة بالغتين، لأنّهم يتحدّثون في الفقه والتفسير والقواعد… إلخ. لكن عندما بدأ علماء اللغة والقواعد العربية بجمع قواعد اللغة لتثبيت اللغة القرآنية، لجأوا إلى الشعر العربي الكلاسيكي في قلب الصحراء، بسبب الاعتقاد السائد بأنّ لغة الصحراء هي اللغة الأقرب إلى القرآن، لأنّ لغته كانت مشتركة بين بعض القبائل في الجزيرة العربية. وعندما أقول “مشتركة” لا أقصد اللهجات المحكيّة، بل لغة الاتصال بين الشعراء. وهذا يعني أنّ الشعر الذي تمّ الحذر منه في البداية أصبح، لكن من دون تشريع رسمي، “مقدّساً” عبر لغة القرآن، أو قُل عبر البحث عن لغة القرآن. وأكتفي هنا بالقول إنّ الشعر في الأدب العربي استمرّ في مسيرته، فيما ظلّ النثر تعليمياً.
إقرأ أيضاً: معرض بيروت للكتاب: ظاهرة خالد غطّاس
لا أحد ينكر أنّ هنالك أدباء كباراً في الأدب العربي الكلاسيكي، لكنّ المؤكّد أيضاً أنّ الكاتب عندما كان يكتب النثر كان عليه أن يكتب شيئاً محدّداً لا أن يقوم بتمارين أسلوبية، بل للكلام عن أشياء جدّية ورصينة وتهمّ الجماعة.