كانت هناك محاولة لصنع عالم جديد يستعيد حرباً لم تكن ضرورية واستُبعدت من التاريخ في لحظة انتصار وهمي فيها: إنّها الحرب الباردة التي كانت قائمة يوم كان الاتحاد السوفيتي يرفع راياته الحمراء في ثلث مساحة الكوكب، وتبيّن فيما بعد أنّ ما حدث كان مسلسلاً تلفزيونياً أميركياً بدأ بأزمة الصواريخ في كوبا. ويبدو أنّ الموسم الثاني من ذلك المسلسل المخطَّط له بدأ بأزمة الصواريخ في أوكرانيا. غير أنّ المسافة بين ستّينيّات القرن العشرين وعشرينيّات القرن الحادي والعشرين كبيرة ولا يمكن أن تُقاس بالأمتار أو بالساعات.
بوتين سوريا
لكنّ فلاديمير بوتين ليس نيكيتا خروتشوف. ذلك ما تأكّد منه الغرب على حطام أوكرانيا. فبوتين أنقذ روسيا من الضياع. هذا ما يقوله خبراء السياسة الغربيون. هو لم يكن عدوّاً للغرب إلا في حدود المحافظة على مصالح بلده. وهذا ما جسّده تدخّله في الحرب السورية في لحظة مصيرية، عندما كاد أن يسقط نظام الأسد الموالي لروسيا، وبوابته إلى المياه الدافئة على شرق البحر الأبيض المتوسّط.
أدرك بوتين أنّ مساحته في العالم تضيق لو سقطت سوريا. فروسيا دولة عظمى. والدول العظمى موجودة خارج حدودها الجغرافية. فهناك جغرافيا مختلفة، ربّما تتعلّق بعالم السياسة أكثر من أن تكون موجودة على أرض الواقع.
إذا ما عدنا إلى الحلف الجديد الذي نجحت روسيا في إقامته بين دول متناقضة على المستوى العقائدي، فإنّ ذلك يؤكّد ما ينبئ بولادة شرق أوسط جديد يمثّل نسخة نقيضة لذلك الشرق الأوسط الجديد الذي طالما بشّرت به الولايات المتحدة
يُقال دائماً إنّ هناك سوريا الروسيّة على الرغم ممّا انتهت إليه من خراب. وهذا أفضل من أن لا تملك روسيا في المنطقة شيئاً سوى سفاراتها. وأنجزت روسيا الكثير في ذلك الطريق المليء بالعثرات والمهمّات الشاقّة.
فهل يكون عام 2023 حاضنة تحالف روسي – سوري – تركي تكون فيه إسرائيل وإيران ضيفتين دائمتين؟
إذا ما كان ذلك صحيحاً فعلينا أن نعترف أنّ العالم قد تغيّر والحياة التي عرفناها قبل أيام ستكون جزءاً من الماضي، وأنّ على الجميع أن يتبعوا منطقاً مختلفاً عن ذلك الذي كان يجب أن تفرضه نظرية استعادة الحرب الباردة. فروسيا التي تحارب على أرض الواقع ليست دولة من ورق.
الغرب يورّط أوكرانيا
وإذا ما كان الاشتباك الساخن الذي تشهده أراضي أوكرانيا يشغل الجزء الأكبر من الصحف العالمية، فإنّ العقل السياسي الغربي مثقل بأعباء صدمة من العيار الثقيل عبّأتها روسيا بأسلحتها الدبلوماسية. ما لم ينتبه إليه الغرب أنّ روسيا كانت جاهزة للردّ على الاعتراض على نفوذها في سوريا قبل أن تقع حرب أوكرانيا. وهي أكثر معرفة وخبرة بعقلية فولوديمير زيلينسكي من الغرب الذي اكتفى بكونه مهرّجاً يمكنه أن يمثّل دوراً ثانوياً في المسلسل الجديد الذي ينبغي أن يكون طويلاً. وهو ما اختصره بوتين.
كان من اليسير الحديث عن حماقة بوتين في انزلاقه إلى حرب لم تكن ضرورية كما يُقال. لكن ما الذي يمكن قوله تفسيراً للتضخّم الاقتصادي الذي تعاني منه اليوم دول أوروبا قاطبة، بحيث انخفض مستوى المعيشة فيها إلى حدود متدنّية، وصارت الإضرابات واجهتها المعلنة؟
هل كانت أوكرانيا تمدّ العالم الغربي بالغذاء مثلاً؟
تلك واحدة من أكثر أكاذيب العالم الرأسمالي غباء. لقد تورّط صنّاع القرار بفعل شائن حين ظنّوا أنّ في إمكانهم الانتقال بـ”بوتين” إلى موقع الرجل الشرّير الذي يفتك بمصائر البشرية ووهبوه لقب “قيصر”.
إقرأ أيضاً: شارع الرشيد: قلب العراق… يتحوّل إلى مزبلة
شرق أوسط جديد
إذا ما عدنا إلى الحلف الجديد الذي نجحت روسيا في إقامته بين دول متناقضة على المستوى العقائدي، فإنّ ذلك يؤكّد ما ينبئ بولادة شرق أوسط جديد يمثّل نسخة نقيضة لذلك الشرق الأوسط الجديد الذي طالما بشّرت به الولايات المتحدة.
تظلّ خيمة روسيا، التي تجمع بين تركيا وسوريا وإيران وإسرائيل، مفتوحةً لانضمام دول عربية أخرى سترحّب بأن يكون لها مكان في ذلك الحلف الذي لن يعادي الغرب في مصالحه بقدر ما يهبه فرصة للتفكير في عالم جديد لن تكون الحرب الباردة مقياسه.