كلّ محاولة لإنهاء الحرب في أوكرانيا لا بدّ أن تُقابل باستياء أميركي. ما عاد في الإمكان استبعاد الحاجة الأميركية إلى تلك الحرب، وليست الولايات المتحدة راغبة في إخفاء حماستها لاستمرارها، ليس لأنّها لم تترك لأوروبا هامشاً للمناورة إن رغبت وحسب، بل لأنّها أيضاً تنظر بعينين حذرتين متوعّدتين إلى رغبة العالم في إطفاء نار حرب يعرف الجميع أنّه كان من الممكن تفاديها لولا إصرار الإدارة الأميركية على دعم سياسات زيلينسكي المتهوّرة.
تخشى الولايات المتحدة أن تنبعث المفاجأة من مكان غير متوقّع كالمملكة العربية السعودية. لن يكون ذلك ضرباً من الخيال في عالم متغيّر لن تتمكّن فيه الولايات المتحدة أن تستمرّ قطباً وحيداً يدير أحوال العالم حسب مصالحه التي يتصوّر الكثيرون أنّها تتّسم بالإثارة كما يحدث في الأفلام، غير أنّها في حقيقة وقعها تشكّل نوعاً من استنفار العقائد الشرّيرة المتطرّفة التي يجد فيها الأميركيون سبباً لبقائهم في الواجهة ممسكين بهراواتهم.
هذا ما يخشاه زيلينسكي
بغضّ النظر عن الدعم الهائل الذي تتلقّاه أوكرانيا في حربها من أجل إنهاك الدبّ الروسي، فإنّ كلّ ما حدث ويحدث يقع خارج طاقتها على التحمّل. تعبت أوكرانيا وتعب شعبها. ألا يشعر رئيسها الذي بالغ في عدائه لروسيا خدمة للسياسات الأميركية بالتعب؟ لا يخشى زيلينسكي انتصاراً روسيّاً بقدر ما يخشى أن يقوده الشعب إلى مساءلة لن يخرج منها سالماً. فالثمن الباهظ الذي دفعه الشعب الأوكراني لن يسقط من حساباته، وهو ما لا يمكن تعويضه. كما أنّ أوكرانيا فقدت ثقة جارها القويّ الذي تربطها به أواصر لغة تاريخية كانت دائماً عنواناً باذخاً لثقافة مشتركة.
زيلينسكي لا يخادع نفسه حين يُقبل على حضور اجتماعات، الغرض منها البحث عن حلول للمأزق الذي ورّط بلاده به. صانع السمّ الذي لا يرغب في أن يذوقه. وهو إذ يبحث عن فرصة تبعد عنه ذلك الخيار فإنّه يفضّل أن يبقى متماسكاً إلى النهاية من غير أن يلتفت إلى الوراء. لقد أدرك الرجل أنّ خياره كان انتحارياً. إذا كان قد قُدّر عليه أن يستمرّ فلا بدّ أن يُقنع العالم بضرورة الحرب التي صار يتعامل معها باعتبارها شأناً دولياً.
حين حضر زيلينسكي القمّة العربية الأخيرة في جدّة كان يدرك أنّه لم يأتِ للاحتفاء به، بل ليتعرّف على رعاة مستقبله بعيداً عن الأميركيين الذين صنعوا منه بطلاً من ورق فيما كانت بلاده تتمزّق وشعبه يحترق
إنّهم يثقون بالسعودية
الحرب في أوكرانيا هي شأن أميركي. حتى أوروبا التي وضعت نفسها في خدمة الماكينة العسكرية الأوكرانية تدرك أنّ الخطأ يجب أن لا يستمرّ. أن يكون زيلينسكي هو ذلك الخطأ فتلك مشكلة تتعلّق بإرادة الشعب الأوكراني الذي اختار زيلينسكي رئيساً بطريقة ديمقراطية. الشعب هو الذي يجب أن يُلام. هل لجأ زيلينسكي إلى الحرب وحده من غير أن يستشير ممثّلي الشعب؟ سيُقال إنّ روسيا هي التي أعلنت الحرب. ذلك صحيح مظهريّاً. ولكنّ روسيا لم تفعل ذلك إلا بعدما تأكّدت أنّ الخطر يضرب أبوابها.
ليس صحيحاً أنّ زيلينسكي يرفض الحوار مع روسيا التي صارت تتحدّث عن مفاوضات غير مشروطة. فشلت أوروبا في أن تكون وسيطاً، وهي لن تصلح للقيام بذلك بعدما أنهكت شعبها بالضرائب من أجل إمداد أوكرانيا بالسلاح. لا ترغب الصين في أن تتحدّى الولايات المتحدة بعدما قامت بدور خلّاق نتج عنه الاتفاق السعودي الإيراني الذي ما تزال تراقب تنفيذ تفاصيله في دولتين تملك مصلحة في وفاقهما. لمَ لا تكون المملكة العربية السعودية مؤهّلة للقيام بدور الراعي لحلّ سلميّ يُخرج الطرفين الروسي والأوكراني من سوء الفهم فلا يكون هناك طرف غالب وآخر مغلوب؟
حين حضر زيلينسكي القمّة العربية الأخيرة في جدّة كان يدرك أنّه لم يأتِ للاحتفاء به، بل ليتعرّف على رعاة مستقبله بعيداً عن الأميركيين الذين صنعوا منه بطلاً من ورق فيما كانت بلاده تتمزّق وشعبه يحترق. أدار زيلينسكي ظهره إلى الغرب بعدما تجوّل في المدن الأوروبية فلم يرَ إلا الشعارات التي تحرّض على الحرب التي صار على يقين أنّ استمرارها لن ينهي سلطته وحسب، بل وأيضاً الدولة التي يتزعّمها، وهو ما ينذر بهلاكه شخصياً.
إقرأ أيضاً: الصراع الأميركيّ – الروسيّ في إفريقيا
لقد جرّب الرجل الحلول الأوروبية فلم تنفع. الأوروبيون يدعمونه لكي يقاتل وتظلّ بلاده في حالة حرب. ولكن إلى متى؟ هناك من يفكّر في أن يقوده إلى طريق مختلفة تكون فيها روسيا في وضع يسمح له بأن يسمع صوتها. من المؤكّد أنّه يثق بالسعوديين. يثق بهم لأنّهم الطرف الوحيد الذي يتعامل معه بعيداً عن السياسات الأميركية التي أذلّت أوروبا. سيتغيّر العالم لو نجح السعوديون في تحقيق خطّتهم للسلام في أوكرانيا.
*كاتب عراقي