كان من الممكن أنّ يمرّ مرور الكرام كتاب التفويض المسرّب الذي يرسله وزراء الطاقة لمصرف لبنان عند فتح اعتمادات شراء الفيول، لو لم تكن وزارة الطاقة هي موضع النقاش والجدل. وزارة الطاقة يعني قطاع الكهرباء الذي كبّد الخزينة العامة العشرات من مليارات الدولارات، ذهبت هدراً وسمسرات… ولا كهرباء.
وينصّ الكتاب على “تفويض مصرف لبنان قبول المستندات التي سوف ترد تنفيذاً للاعتماد المستنديّ كما هي مقدّمة بالرغم من أي مخالفات أو مغايرات محتملة قد ترد عليه”… وعلى “تنازل وزارة الطاقة بصورة نهائية غير قابلة للرجوع عنها عن إبداء أيّ تحفظ أو اعتراض أو مطالبة، مهما كان موضوعها، قضائيّة أو غير قضائيّة، بهذا الشأن، مهما كانت الأسباب أو الدفوع، علماً أنّ كتاب التفويض والتنازل هذا يشمل الشحنات كافة الحاليّة والمستقبليّة التي سوف يتم تنفيذها من خلال هذا الاعتماد المستنديّ”.
على أثر هذه الخطوة، سارعت وزيرة الطاقة السابقة ندى البستاني للردّ مشيرة إلى أنّ الكتاب هو إجراء اداري ولا يلزم الدولة بالدفع إذا تبيّن وجود مخالفات أو خطأ بالمواصفات، وأنّه معتمد من العام 2005.
في الواقع، يقول أحد المعنيين بملف الطاقة إنّ الأسباب الموجبة لهذا الكتاب، غير مُقنعة، إذ جاء في نصّه أنّ “المحروقات موضوع الاعتماد المستندي المذكور سيتم تسليمها مباشرة في مستودعات معمل الذوق و/أو معمل الجيّة التابعة لمؤسسة كهرباء لبنان”، ما يعني أنّ الوزارة تخشى من تأخر فتح الاعتماد وتعريض مؤسسة كهرباء لبنان للنقص في مادة الفيول، مع العلم أنّ معظم الشحنات كانت تكبّد الخزينة غرامات تأخير، فيما يفترض أن تكون دورة فتح الاعتماد وشراء الفيول وتسليمه، مبرمجة من سنوات ضمن رزنامة زمنية واضحة لا تحتاج إلى “منجّم” لاحتسابها، ويفترض ألا تقع في أخطاء لكي يتمّ إعفاء مصرف لبنان من دوره الرقابيّ.
ينصّ الكتاب على “تفويض مصرف لبنان قبول المستندات التي سوف ترد تنفيذاً للاعتماد المستنديّ كما هي مقدّمة بالرغم من أي مخالفات أو مغايرات محتملة قد ترد عليه”… وعلى “تنازل وزارة الطاقة بصورة نهائية غير قابلة للرجوع عنها عن إبداء أيّ تحفظ أو اعتراض أو مطالبة، مهما كان موضوعها
يضيف أنّ هذه الدورة تعطي مصرف لبنان دوراً رقابياً للتأكد من تطابق المستندات مع مواصفات الشحنة المطلوبة كونه الوسيط بين المورّد والمستورد، وبالتالي فإنّ اعفاءه من هذا الدور يعني إلغاء حلقة ضبط أو رقابة. أما التبرير بأنّ كل الوزراء المتعاقبين التزموا بهذا الإجراء فهو في غير محلّه، خصوصاً أنّ الوقائع المثبتة في نصّ القرار الظني الصادر في قضية الفيول المغشوش بيّنت وجود غشّ في استيراد هذه المادة، ما يستدعي وضع إشارة حمراء حول كتاب وزراة الطاقة.
يشير هذا المعنيّ الذي طلب عدم نشر اسمه، إلى أنّه حتى هذه اللحظة، لا تزال دورة تنفيذ الشحنات ضبابية، وخصوصا حول الأسئلة التالية: من هي الجهة التي تحدد الكميّة؟ ما هو مسارها القانوني؟ ومن يحسمها؟ من يتأكّد منها ؟وكيف؟ من هي الجهة المستلمة؟ ومن يصفّي عقد النفقة؟ من هي الجهة التي تطلب من مصرف لبنان أن يدفع؟
ثم يشرح بأنّ المستفيد هي مؤسسة كهرباء لبنان، لكنّ الدفع يتمّ من خلال الخزينة العامة، أمّا المدقق في المعاملات فهي المديرية العامة للنفط، فيما المستلم هو افتراضياً مؤسسة كهرباء لبنان، ولكن هذه الناحية غير مؤكدة أبداً وفق ما تبيّن مع الوقت. ويؤكد أنّ تعددية الأطراف التي تعمل في هذا الملف، تدفع الى التعاطي بكثير من الشكوك نظراً للثغرات الواقعة والتي قد يتم استغلالها لتمرير فيول غير مطابق ودفع مبالغ غير متوجّبة لناحية النوعيّة والكميّة.
ويلفت إلى أنّ أزمة الفيول المغشوش تدفع الى التصديق بوجود خلل كبير في الدورة والنظر بعين الريبة لكتاب الوزارة، الذي يلغي رقابة مصرف لبنان.
أزمة الكهرباء، هي الأزمة المستعصية على الحلّ في لبنان. ليس فقط لناحية تأمين التيار الكهربائي، ولكن على مستوى المعالجة أيضاً. ففي تموز الماضي أصدر القاضي نقولا منصور قراره الظني في قضية الفيول المغشوش، فادّعى على 30 شخصاً من ضمنهم أورور الفغالي وسركيس حليس. وفي متن قراره الظني المفصّل، شرح القاضي كيفية حصول التلاعب في الفحوصات المخبرية، كاشفاً كيفية دفع وقبض الرشاوى من قبل ممثل طارق الفوال الذي يُعرف بكونه ممثل شركة سوناطراك الجزائرية. كذلك ورد أنّ شركة ZR Energy SAL، التي يتصدّرها ابراهيم الذوق بديلاً عن الأخوين المالكين الفعليين والمسمّاة الشركة بأحرف اسمهما، دفعت رشاوى وحرّضت على تزوير نتائج لفحوصات تبين لاحقاً أنّها مخالفة للمواصفات. وأشار القاضي إلى كيفية التلاعب بنتائج الفحوصات، وعن رشاوى تُراوح بين 200 ألف ليرة و2000 دولار.
تعددية الأطراف التي تعمل في هذا الملف، تدفع الى التعاطي بكثير من الشكوك نظراً للثغرات الواقعة والتي قد يتم استغلالها لتمرير فيول غير مطابق ودفع مبالغ غير متوجّبة لناحية النوعيّة والكميّة
في الوقائع، انتهى عقد سوناطراك يوم 31 كانون الأول من العام الماضي، أي منذ ثلاثة أيام، وهي كانت أبلغت وزير الطاقة ريمون غجر في 4 حزيران عدم رغبتها بتجديد العقد لاستيراد الوقود لصالح “مؤسسة كهرباء لبنان”. ومع ذلك، تقول المعطيات إنّ الشركة لا تزال تزوّد لبنان بالفيول وذلك بفعل اتصالات قادها رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب مع الجانب الجزائري لتأمين الفيول تنفيذاً للعقد الذي يتيح للبنان الاستفادة من حدّ أدنى من الشحنات، وهو لم يستفد منها كلها بعد، لذلك يحق له المطالبه بها وفقاً للعقد. وهذا ما يحصل، وهي كميات قد تكفيه لأكثر من ستة أشهر وفق مصادر رسمية.
إقرأ أيضاً: دفتر شروط الفيول: أفخاخ… وتنفيعات؟!
والعقد الذي يربط “سوناطراك” بوزارة الطاقة والمياه بلبنان منذ 2005 يقضي بتزويد شركة الكهرباء اللبنانية بـ1.2 مليون طن من الفيول سنوياً والسوق اللبنانية بـ600 ألف طن من المازوت سنوياً. ولتنفيذ هذا العقد، فإن “سوناطراك”، بداية، اعتمدت شركة “بي بي إينرجي” وسيطاً وفق عقد يقضي بوسم شحناته التي يقتنيها في السوق الدولية باسم الشركة الجزائرية مقابل 3.5 دولار للطن المتري، في حين يستفيد هو من هامش ربحي. أي أن سوناطراك كانت تلعب دور الواجهة لنشاط هذا الوسيط في لبنان والذي نفّذ هذا العقد الحصريّ لسنوات قبل فرض “زيد آر إينرجي” التي صارت الوسيط الوحيد – علناً على الأقل – الذي يؤمّن الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان.
المعلومة الثانية تفيد أنّ الشركة المدعى عليها في القرار الظني، لا تزال هي نفسها الوسيط الذي تتكل عليه مؤسسة كهرباء لبنان كون وزارة الطاقة لم تفرض أي تعديل على آلية استيراد الفيول بانتظار الانتهاء من وضع دفتر شروط لاجراء مناقصة جديدة، قد لا ترى النور أبداً.
الأهم من ذلك، وفق المتابعين، هو أنّ مصرف لبنان يرفض طلب مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون تسليمها لائحة بالحسابات المحولة لصالح شركة “زيد آر إينرجي”، للتدقيق في الفارق بين ما تدفعه الخزينة العامة لشراء الفيول وبين ما تحققه الشركة من أرباح، للنظر في اتهامات الهدر بالمليارات التي تشوب هذا الملف.