ما حاوله الرئيس فؤاد السنيورة من إحياء لمرجعية اتفاق الطائف والدستور فيما أسماه “مبادرة للعيش المشترك والدستور والإنقاذ الوطني”، يفتقر إلى “الجاذبية” التي يمكن اعتبارها بحقّ تجديداً للعقد الاجتماعي بين مكوّنات لبنان. بما أنّه يدعو ببساطة إلى تجديد الاعتماد على مرجعية الدستور الحالي كخيار لا ثاني له، وذلك على الرغم من إقراره في سياق المبادرة بأنّ معظم القوى السياسية في معسكري 8 و14 آذار، غير متمسكة بهذا الاتفاق، وما نتج عنه من تعديلات دستورية قبل أكثر من 30 سنة، بل هي تراود على تغيير بعض البنود، إن لم تكن ترنو إلى تجاوز الدستور برمّته وبناء نظام جديد.
ما غلب على مبادرة السنيورة هو توصيف المشكلة، فبرع بها، وكان شفّافاً صريحاً، في تركيزه الضوء في مختلف الزوايا. فليس الثنائي الحاكم (الحزب والتيار) وحلفاؤه ضدّ هذا الدستور فقط، بل إن قوى مسيحية كانت محسوبة على حركة 14 آذار، تتنصّل تدريجياً من هذا الاتفاق بوصفه “الاتفاق الضرورة” الذي أنهى الحرب الأهلية فقط. وما عدا ذلك هو ليس محلّ اتفاق ولا وفاق. وهذا يكشف العطل البنيوي في تيار السيادة أوّلاً، قبل الانتقال إلى الضفة الأخرى من المشهد. وهنا يمكن الاسترسال في اتجاهات عدّة لطرح الأسئلة التي لا تجد إجاباتٍ صريحة. فإن لم يكن المسيحيون المعارضون لسلاح غير سلاح الدولة، يقبلون بوثيقة الوفاق الوطني ولا بالدستور، أو يشكون منه في أقلّ تقدير ولو مواربة، فما هو خلافهم الجوهري مع التيار الوطني الحرّ، وما هو طرحهم البديل؟
إنّ ما دعاه السنيورة “اللايقين الوطني” هو الكلمة المفتاح في استرجاع المشهد السائد. وهذه الحالة أعمق من مجرّد أزمة اقتصادية مالية معقّدة عمرها عشرات السنين، وحان الآن وقت القطاف. بل يمكن اختصار الحالة الراهنة بعبارة “اهتزاز المرجعية الناظمة لحياة اللبنانيين، بل تراجعها”. وأُضيف إلى ذلك، غياب تلك المرجعية في وعي الشباب، وهم الجسم المتحرّك في الشارع اليوم، ممن لم يشهد آلام الحرب ولا مخاضات الاتفاق، ولا يدرك العوامل ولا الظروف أو الشروط التي انعقد فيها، وليس لديهم بدائل فكرية واضحة، بل مجرّد شعارات. ويفتقر الشباب عموماً إلى ثقافة سياسية أو دستورية بالحدّ المفيد، وليس السبب فقط في عدم الإعمال السليم لاتفاق الطائف وللدستور طوال السنوات الفائتة، بل لأن الثقافة التي سادت بعد الحرب، هي ثقافة الهروب من مواجهة الذاكرة.
وعلى هذا، لا ينبع الخطر وحسب من محاولة الانقلاب على وثيقة الوفاق الوطني أو الدستور، والدعوة إلى نظام جديد، من التيار الوطني الحرّ على نحوٍ أكثر صراحة من حليفه الحزب. بل هو كذلك بالقدر نفسه من الأطراف الأخرى التي تتلكأ في الدفاع عن المرجعية الدستورية، أو لا تشعر بحماسة للتصدّي لمقولات تغيير النظام، والتي شاعت في الحراك الشعبي خريف عام 2019، بل ربما كانت تتبنّى مبدأ التغيير واستعادة نظام الجمهورية الأولى الذي هو أقرب إلى النظام الرئاسي، وترفض التوقيت المطروح الآن، لأنها تخشى تغيير النظام في موازين قوى غير ملائمة.
ما غلب على مبادرة السنيورة هو توصيف المشكلة، فبرع بها، وكان شفّافاً صريحاً، في تركيزه الضوء في مختلف الزوايا
على أنّ هذا الموقف الهشّ أو المائع، هو نوع من التواطؤ الصامت، مع طرفي تفاهم مار مخايل، فمن هو المرشّح إذاً لحمل أعباء هذه المبادرة، وما هي حظوظ النجاح؟
إنّ الميثاق الوطني عام 1943، حملته كتلة مارونية سنية، في لحظة تاريخية مؤاتية، وكان فَلْتة. بُني على جزء صلب وهو النفي المتبادل: تخلّي المسيحيين عن التبعية لفرنسا مقابل تخلّي المسلمين عن الوحدة العربية. لكن بقي جزء أساسي منه، غامض، وهو جوهر النظام نفسه، وعلى أن يبقى طائفياً بشكل مؤقت وفق ما نصت عليه المادة 95 من الدستور قبل تعديله: “بصورة مؤقتة والتماساً للعدل والوفاق تمثَّل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة“. أما التفاهم غير المكتوب بين الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح، فقد تضمّن أيضاً التناوب على الرئاسات بين الطوائف، في المرحلة الانتقالية قبل إلغاء الطائفية السياسية في الحكم والإدارة. وهذا لو نُفّذ لانطبق تماماً على روح المادة 95، ولعزّز الاتجاه نحو تخفيف الصراع الطائفي في الدولة تدريجياً، من دون اللجوء إلى الاستحالتين المتبادلتين حتى اليوم: يطالب المسلمون بإلغاء الطائفية السياسية فوراً، فيطالب المسيحيون بالعلمانية الشاملة فوراً!
وعلى هذا، لو كان اتفاق الطائف قد وضع حدّاً بحسب السنيورة “للمنطق القائم على رعايةِ توازنٍ هشّ بين الأوزان والأحجام الطائفية. وذلك بإلغائه المعيار العددي الديموغرافي الذي طالما استُخدم سلاحاً في الصراع الطائفي، وبإقراره المناصفة على صعيد تمثيل المسيحيين والمسلمين في السلطة وفي مواقع الفئة الأولى من الإدارة العامة”، فلماذا يستمرّ خوف المسيحيين من أعداد المسلمين، ما يجعلهم يفكّرون مرة أخرى، بلبنان الصغير، ولو في إطار فدرالي أو كونفدرالي؟ ولماذا يستمرّ شعور السُنة كما الشيعة بالغبن في هذا النظام بالنظر إلى عددهم الغالب؟ هل صحيح أنّ اتفاق الطائف قد أوقف العدّ الديموغرافي؟ وهل يكفي تشكيل مجلس الشيوخ لإنهاء المشاعر المتناقضة بين الطوائف؟
لا ينبع الخطر وحسب من محاولة الانقلاب على وثيقة الوفاق الوطني أو الدستور، والدعوة إلى نظام جديد، من التيار الوطني الحرّ على نحوٍ أكثر صراحة من حليفه الحزب. بل هو كذلك بالقدر نفسه من الأطراف الأخرى التي تتلكأ في الدفاع عن المرجعية الدستورية
إنّ المادة 95 المعدّلة عام 1990 تنصّ على ما يلي:
“على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضمّ بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية.
مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية. وفي المرحلة الانتقالية:
أ – تمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.
ب – تلغى قاعدة التمثيل الطائفي، ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها، وفي ما يعادل الفئة الأولى فيها، وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أيّ وظيفة لأية طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة”.
إقرأ أيضاً: السنيورة وحيداً… “جبهة” دون حلفاء
هذه المادة جوهرية وبالغة الأهمية، لأنها تمثّل الأساس في إصلاح النظام، لا تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، ولا تعزيز دور مجلس الوزراء. وعلى أهميتها، فإنها تُعنى بتنظيم المرحلة الانتقالية نحو إلغاء الطائفية السياسية، وتكون المناصفة فيها بين المسلمين والمسيحيين، في الفئة الأولى حصراً وما يعادلها، مع التقيّد بمبدأي الاختصاص والكفاءة، وليس بمبدأ الولاء للأشخاص أو للحزب الغالب في كلّ طائفة. لكن إن اعتبرنا كما يحاول بعضهم الاجتهاد، أنّ المرحلة الانتقالية لم تبدأ بعد لأنّ إنشاء الهيئة الوطنية لم يقع حتّى الآن، فهل نعود إلى النصّ الملغى في المادة 95، وتمتدّ المناصفة من أعلى الهرم إلى أسفله كما يحصل اليوم؟
إن كان تعديل هذه المادة، وُجد كي لا يُطبّق أبداً، من أجل وقف العدّ، وتأبيد المناصفة ومعها الطائفية السياسية، فلماذا لا يُلغى التعديل وتعود المادة القديمة وهي المطبّقة فعلاً حتّى هذه اللحظة؟ وإن كان مطلوباً الحفاظ على هذه المادة معدّلة للإبقاء على روحية إلغاء الطائفية كمبدأ مثالي له أثره الإيجابي ولو لم يطبّق، إلا أنّ عدم ابتكار حلول وسطية أخرى، وهي ممكنة (لم تظهر في متن المبادرة)، يفاقم من تعقيد الحياة السياسية، وتسعير الروح الطائفي بدل العكس.