بحسب تصنيف “غلوبال فاير باور” لعام 2021، الجيش المصري يحتلّ المرتبة الـ13 بين أقوى جيوش العالم، قبل إيران ومرتبتها الـ14… لتأتي إسرائيل في المرتبة الـ20.
هذا التصنيف ليس عابراً ولا تفصيلاً في رؤية مصر لنفسها. بلد المئة مليون عربي، لا يرى نفسه دولةً سنّيّةً في المنطقة. يرفض مسؤولون مصريون هذا التصنيف: “مصر أكبر بلد عربي”. وبالتالي، حين يتحدّث الرئيس عبد الفتاح السيسي عن “الدولة الوطنية”، وحين ينظر إلى البلاد العربية كيف تمزّقها الطوائف والمذاهب والإثنيات، ووعي ما قبل الدولة، وحين يرى كيف تتزاحم التنظيمات الإسلاموية للسيطرة على هذا البلد أو ذاك… وحين نتذكّر أنّ مصر عاشت عاماً إخوانياً أليماً، انتهى بخلع الرئيس الإخواني محمد مرسي، وكيف شهدت مصر اعتداءاتٍ على الشيعة والمسيحيين خلال ولاية مرسي القصيرة، يصير أكثر سهولةً فهم كيف لا ترى مصر نفسها دولةً سنّيّة.
إقرأ أيضاً: عودة مصر (1): خروج الفرعون من القلعة
فإذا كانت إيران تحتاج إلى “التشيّع” كي تنفذ منه إلى المجموعات الشيعية في بعض الدول العربية، لتؤلّبها على أنظمة الحكم، فتسلّحها وتموّلها وتغذّيها بالحقد العقائدي، لتنقلب على “الدولة” وتبني ميليشياتٍ لا تني تهاجم الجيوش وتشتبك معها…
وإذا كانت تركيا “تنسخ” التجربة الإيرانية، من خلال التسلّل إلى “جيوش” النازحين السوريين، وتمويلهم وتسليحهم، وتحويلهم إلى مقاتلين في “سفر برلك” جديد، كما فعلت بنقل 8 آلاف مقاتل سوري إلى ليبيا لمحاربة أهلها…
وإذا كانت إسرائيل تعتمد على القوّة الأميركية الساحقة الماحقة، التي لا يمكن لأيّ جيش أن يوازيها أو يواجهها…
فإنّ مصر لا تجد أمامها سوى “الدولة الوطنية”، كما جاء في الجزء الثاني من هذه السلسلة. وهذا ليس خياراً إنشائياً، ولا ينطلق من ترف فكري أو هو واحد من مجموعة خيارات.
الأمن القومي المصري ينطلق من عقل “الدولة العميقة”، التي تعرف أنّ الدول القوية، ذات الخلفية الوطنية، غير الدينية، وغير العنصرية، لا يمكن أن تكون طيّعة في أيدي المشاريع الغريبة عن العروبة. فاللبناني المؤمن بالدولة لا يمكن أن ينخرط في تنظيم “داعش” ليقاتل في سوريا أو اليمن أو إدلب أو سرت.
يمكن القول إنّ جرح إدلب، ومقاتليها المنقولين إلى ليبيا، يؤلم العقل المصري، ويجعله متحسّباً من استخدام أوراق التنظيمات المذهبية والمتطرّفة دينياً، في مواجهة مصر مباشرةً. وجرح إدلب يرفع قلق مصر من استخدام الأتراك شمال لبنان خزّاناً سنّيّاً مشابهاً لإدلب.
من هنا يمكن فهم لماذا تهتمّ مصر باستقرار لبنان، وبحلّ سياسي في سوريا وفي اليمن، قدر اهتمامها باستقرار القاهرة. ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا أمن ميدان التحرير من أمن بيروت وطرابلس وعكّار.
دعم الدولة الوطنية، إذاً، لا بدّ أن يرتطم، وأن يصطدم، وأن يواجه المشاريع الأخرى على امتداد المنطقة العربية.
لنأخذ لبنان مثالاً. بعد تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020، قدّمت مصر مساعداتٍ للجيش اللبناني، باعتباره العمود الفقري لـ”الدولة الوطنية” في لبنان.
ثم أقامت جسراً جويّاً طوال أكثر من 6 أشهر، نقل أطناناً من المساعدات، من بينها زجاج وألمنيوم لترميم ما خلّفه تفجير المرفأ. وقد تسلّم هذه المساعدات وزير حزب الله في حكومة تصريف الأعمال، باعتباره وزير الصناعة، عماد حبّ الله. وتسلّم وزير حزب الله في وزارة الصحّة، حمد حسن، أطناناً من مساعدات الأدوية. وقدّمت السفارة المصرية مساعداتٍ لمستشفى الزهراء، ولمستشفى بهمن، في ضاحية بيروت الجنوبية، ولغيرهما من المستشفيات طبعاً.
مصر في لبنان، كما في غيره من الدول، لا تتصرّف من منطلق سنّيّ، ولا بمواجهة الشيعة. في الخمسينيّات كان رئيس الجمهورية فؤاد شهاب، المارونيّ، هو حليف مصر.
حليف مصر هو “الدولة” إذاً، وبناءً على هذا المبدأ تتفرّع المواقف. ومصر هي الدولة العربية الكبرى، وليست دولة سنّيّة. ومشروعها قد يصطدم بالإيرانيين في بيروت، والشمال والجنوب، وهو مستعدّ لهذا الاصطدام. لكنّه ليس مشروعاً استفزازياً، ولا ينطلق من “عداء” لأيّ طرف أو مجموعة. والدليل على هذا هو التنسيق الدائم بين سفارة مصر وبين حزب الله منذ عام 2005. وبعد حرب تموز 2006 كشف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن لقاءات دورية مع مندوب من سفارة مصر. والتاريخ سيكشف دور مصر في وقف العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006.
إقرأ أيضاً: عودة مصر (2): تأسيس مشروع عربيّ.. بـ”الدولة الوطنيّة”
مشروع مصر العربي هو مشروع ناعم، وغير صداميّ. لكنّه في مواجهة موضوعية وطبيعية مع مشروع إيران العسكري التسلّحي المذهبي، ومع مشروع تركيا الطامع في أدوار خارج الحدود التركية، بناءً على أحلام عثمانية.
إنّها العروبة الناعمة، في مواجهة التشيّع المسلّح، والتسنّن المتطرّف.
كتب ياسر علوي في “الشروق”: رق الحبيب – «مدام تحب»: أحمد رامي والقصبجي في حضرة الست
في الجزء الرابع والأخير غداً: لا مواجهة بين مصر والسعودية في لبنان؟