أتسمّر مساء كل يوم أمام شاشة التلفزيون لأشاهد نشرة الأخبار. فلمشاهدة نشرات الأخبار طعم آخر يختلف عن قراءتها ومتابعته في العواجل والتطورات الآنية طوال النهار. إذ تُمكّنك من رصد “الزبدة” التي تصل إلى أغلبية الناس العاديين وما يبقى منها في الأذهان.
غالبًا، أبدأ بنشرة mtv ثم في منتصف الليل، أضبط التلفاز على محطة “الجديد”. أقوم بمتابعة النشرتين، ومرات كثيرة أحاول أن أتابع عددًا أكبر من المحطّات، وذلك بغية إجراء مسح لأكبر قدر ممكن من الأخبار، لأرى ما ذُكر منها وما سقط عمدًا أو سهوًا. إلّا أنّني منذ مدة أتقصّد التقميش والبحث في النشرات عن موقف أو كلمة أو تصريح لمفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، يتناول الأزمة السياسية الضاربة بجذورها النظام في لبنان والمهددة لمصير الناس والطوائف… فلم أُفلح.
الـ”لا فلاح” هذا، عمره أشهر وليس وليد اليوم. أذكر حينما طرح البطريرك الماروني بشارة الراعي مبادرة الحياد في الصيف الماضي، انبرى المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان للردّ عليها من خلال الدعوة إلى “نظام تكميلي أو تعديلي لاتفاق الطائف”، معتبرًا أنّ انفجار المرفأ خير شاهد على “فشل هذا النظام الذي يجهّل المسؤول والفاعل معًا”.
منذ مدة أتقصّد التقميش والبحث في النشرات عن موقف أو كلمة أو تصريح لمفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، يتناول الأزمة السياسية الضاربة بجذورها النظام في لبنان والمهددة لمصير الناس والطوائف… فلم أفلح
يومها التزم مفتي الجمهورية اللبنانية الصمت. لم يخرج بكلمة تترك صدًى أو وقعًا لدى الجمهور. لا عند السنّة ولا عند غير السنّة، وذلك بخلاف مواقف البطرك الماروني التي لاقت آذانًا صاغية خارج “الصف المسيحي” ووجدت من يتبنّى طروحاته السياسية لما فيها من عصف فكري جدّي يستجدي أي مساعدة ممكنة للخروج من هذه الأزمة.
اليوم يخرج البطريرك الراعي بمبادرة جديدة مكمّلة لتلك التي تخصّ الحياد، يدعو فيها إلى تدويل الأزمة التي تعصف بلبنان وتهدّد مصيره، فينبري مجددًا المفتي قبلان للردّ عليه أيضًا، ويعتبر أنّ الدعوة “إنما هي إجهاز بشدة على صيغة لبنان” لأنّ السيادة “ليست صيحة موضة ساعة نشاء نلبسها وساعة نشاء نخلعها”…
لكن مهلًا، ثمة نقطة أرى أنّلا بدّ ولا مفرّ من توضيحها. دعوتي المفتي إلى الكلام لا تنطلق أبدًا من فكرة القبول بتدخّل رجال الدين في السياسة. قطعًا لا. فهذا المبدأ محسوم ولا نقاش فيه. لأنّني من دعاة عدم تدخّل رجال الدين في السياسية وذلك أفضل لهم وأسلم لنا. بل أنا من دعاة فصل الدين عن الدولة على الطريقة الأوروبية، إذا أمكن… لكن إلى حينه، هل يجوز الصمت؟ هل يجوز مشاهدة التراشق بين فريق على حقّ وآخر مساند لـ”منطق “الدويلة” والسلاح ثم الوقوف على الحياد؟
والمفتي هو الوحيد الذي يحمل صفة “مفتي الجمهورية”، أي مفتي المسلمين كلّهم، ومفتي كلّ لبنان، وليس طائفة دون أخرى.
اليوم يخرج البطريرك الراعي بمبادرة جديدة مكمّلة لتلك التي تخصّ الحياد، يدعو فيها إلى تدويل الأزمة التي تعصف بلبنان وتهدّد مصيره، فينبري مجددًا المفتي قبلان للردّ عليه أيضًا
ولنتذكّر كذلك أنّ للمفتي كلامًا سابقًا في السياسة، وصمته هنا ليس نابعًا من مبدأ “عدم التدخل” الذي أسلفنا ذكره، وإنّما من مبدأ الانتقاء: أين يتدخّل ومتى يتدخّل وكيف يتدخّل ولصالح من؟ هذه النقطة تحديدًا بحاجة إلى توضيح من سماحته، خصوصًا أنّ مقولة “لا تخف ولا تقلق… أنا معك” ما زالت منذ العام 2018 تصدح في النهى إلى اليوم وأحدٌ لم ينسها.
إقرأ أيضاً: البطريرك: “التدويل” لدعم لبنان لا لسيطرة خارجية
دعوة المفتي إلى الكلام تنطلق من الشعور بأنّ مصطلحات من صنف “التدويل” و”الحياد” و”تعديل الدستور” و”صيغة لبنان” لا تعني المرجعية الدينية للطائفة السنيّة. تشعر وكأنّ تلك الطائفة متروكة لمصيرها من الداخل والخارج. متروكة من الدول العربية الصديقة، ومتروكة أيضًا من مرجعيتها الدينية ومن مرجعيتها السياسية التي تتقاذفها القرارات المتناقضة بلا أيّ عودة إلى هوى الناس وتطلعاتها.
هي طائفة ممنوعة من الحلم، لا طموحات لها ولا مخاوف أو هواجس… زراعة دورها “بعل”، وتسير على بركة الله. ممنوعة أنّ تحلم وأن تغار من وطنية البطريرك الراعي ومن مواقفه الأخيرة الصائبة. ممنوع عليها أن تطمح لتطلعاتها وتطرح هواجسها في العلن من منبر “دار الفتوى” الذي يمثّل الجمهورية اللبنانية كلها، وبات اليوم عند التدويل والحياد غائبًا.
ألا يحقّ لنا أن نغار وأن نسأل؟… مبلا يحقّ لنا!