الحريري أمام عون: من يَهِنُ يهونُ هوانُه

مدة القراءة 5 د


في مرثيات ومرويات القرى اللبنانية، يتباهى الرجال بخصالهم ومراجلهم ومناقبيتهم في أداء مهامهم، حيث لا غيرهم ينجح في ما يقومون به. الشواهد كثيرة في هذه المرويات حيث يجتمع الناس في جلسات الشتاء، يستمعون إلى تجارب بعضهم البعض والإنجازات الخيالية التي يحققها كل راوٍ على مسامع الآخرين. ينمو الفتيان ويكبرون على حكايات هذه المآثر التي استحكمت بالمحدّدات السياسية والإجتماعية. فبدلاً من تصويبها يغرق في شعبويتها من يعتبرون أنفسهم مؤثرين في بيئاتهم وإجتماعاتهم.

 يختصر رئيس الجمهورية ميشال عون وصحبه برئاسة جبران باسيل، هذه التجربة، ولا يتوانى أحد منهم عن تقديس نفسه، وهو المخلّص والواحد الحكيم العليم.

التسوية التي جمعت عون والحريري، في عمقها، هي نتيجة هذا التشابه الإنحداري للقيمة السياسية

تستهوي هذه المأثرة أيضاً الرئيس سعد الحريري. هو القائل بأنّه إذا ما أُزيح من رئاسة الحكومة سيندم الآخرون فيما بعد وسيكتشفون “قيمته”. إنّها الركيزة القروية الأساسية التي تحتدم في لبنان عند الإنتخابات البلدية. إذ يخرج رئيس البلدية على عائلته والعائلات الأخرى المناصرة له، متحدّثاً عن إنجازاته، ومؤكداً أنّ من سيخلفه لن يسيرّ الأعمال ويسيّل الإنجازات كما فعل سابقه. وهذه تنطبق أيضاً على موظفين شارفوا على التقاعد، يشيعون أمام عائلتهم الصغيرة وزملائهم بأنّ انتاج الموقع الذي يشغلونه سيتراجع فور تركهم له.

للأسف، أن هذه النماذج تمضي اتساعاً وتلقى رواجاً على تفاهتها ومحدودية بصيرتها، فتتغلب حسابات الشخص على الموقع، والحزب أو التيار على الدولة. وما يدعو للأسف، هو أنّ التسوية التي جمعت عون والحريري، في عمقها، هي نتيجة هذا التشابه الإنحداري للقيمة السياسية، وتنزيلها من سياسة الناس وشؤونهم إلى سياسة المصالح التي جمعتهما معاً، كشخصين فقط كما تجمعهما مآثر الأحادية المستحكمة بالمناصب والمواقع.

وفي الأساس قامت التسوية على تكريس مفهوم العائلية على ما عداها، عائلة التيار الوطني الحرّ وعائلة المستقبل، إذ يدّعي كلا الطرفين أبوتهما الطائفية، لهذا الحصة المسيحية، ولذاك حصة السنّة، في أخطر عملية تهميش وتهشيم للمجتمع اللبنانية ولما تبقّى من دولة أو دستور. دستور الطائف الذي أعلن الحريري دخوله إلى التسوية من بوابة الحفاظ عليه، لكنّه أمعن في امتهانه وتجاوزه بتنازله عن صلاحيات موقعه وأساسيات شروط إدارة الدولة في سبيل مصالح التسوية. وهو الذي لطالما كرّر أنّه لا يريد إغضاب عون أو باسيل. وحتى عندما نوقش بقانون الإنتخاب الذي سيتسبب بخسارة محتّمة له، أجاب مناقشيه:”ما بدّي زعّل عون وباسيل”.

مشكلة الثنائيات المصابة بهستيرها الأحادية، أنّها تصل إلى أيام تدفع ثمن نرجسيتها. فعون الذي يدّعي خوض المعارك للحفاظ على المسيحيين ودورهم وصلاحياتهم، إنفجرت في وجهه ثورة في غالبيتها مسيحية. والحريري الذي رفع ذات يوم شعار “أبو السنّة” لم يجد “أبناؤه” أنفسهم في حالة يتم كالتي وصلوا إليها في عهده. إذ تضيق بهم السبل، وتنسدّ الآفاق، هم الذين دفعوا الأثمان أكثر من مرّة نتيجة وقوفهم إلى جانب الحريري، فلم يجدوا منه إلا التنازل ومراكمة الخسارات، سياسياً، دستورياً، طائفياً، إقتصادياً وإجتماعياً.

وصلت حال بؤسهم إلى حدّ اختيار الآخرين لممثليهم في مواقع الدولة، وهم يعلمون أنّ السياسة لا تدار بمنطق الهواية ولا الأنانية. فتعقد التسويات في لقاءات سوداء مغلقة، على حسابهم وحساب تطلّعاتهم. وهي أخطاء قالتة يقترفها من يتفاوض بإسمهم. فوضع موقع رئاسة الحكومة في منزلة وزير، وفاوض على شكل الحكومة قبل تكليف رئيسها، ومن جرى التداول باسمه ليس سوى احتقارٍ لمن يفترض أن يمثّلهم. وهو لا يمثّل أكثر من حدود عتبة منزله.

[START2]تلقّى الحريري أكثر من فرصة، لو نجح في استثمارها لرفع أسهمه للعلى[END2]

قد لا يتحمّل محمد الصفدي أو سمير الخطيب مسؤولية التداول بأسمائهم كمرشحين مفترضين لتولّي رئاسة الحكومة. من يتحمّل المسؤولية هو من أفسح في المجال أمام من بنى عهده على سياسة القفز فوق اتفاق الطائف وتحجيم موقع رئيس الحكومة وصلاحياته، بالتدخل إلى فرض الشروط خارج المنطق والأعراف، وسط عجز “المولّي نفسه” عن المواجهة والدفاع عن المواقع والكرامات. الخطيئة الكبرى كانت في الموافقة على الدخول في بازار المفاوضات على رئيس الحكومة وشكلها وتوزيعاتها قبل إجراء الإستشارات. فيدّعي عون إنتصاراً باستعادة صلاحياته وإلغاء ما تبقىّ من الطائف، بينما يُمني رئيس الحكومة بهزيمة نكراء ستؤسّس لأعراف جديدة على ما يبدو أنّ ضَيّق البصيرة لا يراها.

تلقّى الحريري أكثر من فرصة، لو نجح في استثمارها لرفع أسهمه للعلى. لكنّه خسر جمهوره كرمى لعين التسوية ومغانمها. ضحّى بالطائف والصلاحيات للبقاء رئيساً ولو غير مقرّر، يفتقد إلى المونة على حكومته. خسر حلفاءً وأصدقاءً نزولاً عند رغبة عون وباسيل وكرمى لإرضائهم. فوّت فرصة استعادة التوازن أكثر من مرّة قبل انفجار 17 تشرين، وخسر حكومته، مقابل بقاء عون في موقعه وفرض باسيل الشروط عليه. وحالياً يسهم في خسارة الموقع الذي منحه والده الرونق والفعالية. والخسارات في هذه المجالات قاتلة، إذ لا تقتصر الخسائر على أصحابها، بل تطال بيئة إجتماعية وسياسية بأكلمها وبنية دستورية دفع في سبيلها دماء ومعارك. وسيظلّ يخسر طالما أنّه رهينة تلك المرويات القروية بأنّه وحده لا شريك له، مكّلفاً أو مؤلّفاً أو مفاوضاً، وأنّ الجميع بحاجته استناداً إلى أوهام من قبيل العلاقات الدولية والمساعدات. وهذه كلّها قد استحالت مجداً باطلاً لا قيمة له ولا فعالية، لأنّ من يهِنُ مرّةً يهون هوانُه كلَّ مرّة.

مواضيع ذات صلة

بعد الحرب.. هل من دروس تعلّمناها؟

“لو كنت تدرين ما ألقاه من شجنِ… لكنتِ أرفق من آسى ومن صفحَ غداة لوّحت بالآمال باسمة… لان الذي ثار وانقاد الذي جمحَ فالروض مهما…

هل يستمع الأسد إلى النّصائح العربيّة؟

هجوم 27 تشرين الثاني 2024 من إدلب على حلب، الذي أثبت ضعف نظام الأسد وتهالُكه، يعني أن لا حلّ في الأمد المنظور للحرب السورية الداخلية…

إسرائيل وتركيا وروسيا تستعدّ لـ”عاصفة ترامب”؟

تتسارع الأحداث مع اقتراب 20 كانون الثاني، يوم تنصيب دونالد ترامب الرئيس الـ47 للولايات المتحدة. وبدأت بعض الدول تتموضع في محاولة لتثبيت وقائع على الأرض،…

إيران والترويكا: حوار الوقت الضّائع

كان لافتاً القرار الإيراني بالذهاب إلى عقد جلسة حوار مع الترويكا الأوروبية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) في العاصمة السويسرية جنيف، على الرغم من الموقف التصعيدي الذي…