نقف منذ عقود في عنق الزجاجة. عرفنا شظف العيش واختبرنا كل أنواع المهانة والهوان. صُبت في جروحنا المتورمة كل عذابات الأرض، ورقصت فوق جثتنا كل المصائب التي لا تأتي فرادى.
ما عدنا نريد المساكنة مع واقع لا يتغيّر، ومع منظومة تبرع في صناعة الأوهام والأزلام، ومع نظام لم يولّد إلا الضغينة والاحتراب والأزمات، ومع تركيبة متجذرة ومتوحشة وعصية على الكسر في صناديق الاقتراع. ما عندنا نؤمن بالمهادنة والتراكم والصبر الاستراتيجي، وما عادت مواعظ الاستقرار وطبول الاقتتال ومحاذير الرقص على ضفاف الهاوية تفعل فعلها أو تؤتي أُكلها. لقد حسمنا خيارنا بالمواجهة، غير آبهين بكل السرديات التي صدعوا بها رؤوسنا وأطبقوا فيها على صدرونا وعقولنا.
ماذا يكون الانهيار إن لم يكن على شاكلة نزق يريد الوصول إلى رئاسة الجمهورية بأي ثمن
هكذا هي الثورة. حق التاريخ في ذمة الشعوب. تنام في عميقهم كما تنام العاصفة، ثم ما تلبث أن تنفجر. ونحن طالما انتظرناها سيلاً جارفًا لا يُبقي ولا يذر، لكننا كنا ندرك مذاك أنها ستؤسس لسمفونية ممجوجة ومبتذلة حول الانهيار، ويا مرحبًا بالانهيار. من قال إننا نخشاه؟ من قال إننا سنرتجف خوفًا وذعرًا كلما لاحت بيارقه؟
ماذا يكون الانهيار إن لم تختصره فكرة قيام دويلة في متن الدولة، تستحوذ منفردة على كلمة الفصل في كل صغيرة وكبيرة، من الحرب والسلم إلى الممنوع والمسموح. يذهبون بلا حسيب أو رقيب إلى التخريب والقتال في أقاصي الأرض، ويعتلون المنابر لتهديد دول وشتم أنظمة وتحقير حكومات، ثم يتباهون بولاة أمرهم ونعمتهم، وبأنهم مجرد بيادق لخدمة مشاريع عابرة للخرائط ومدمرة للنسيج السياسي والاجتماعي في بلدهم وكل بلدان المنطقة.
ماذا يكون الانهيار إن لم يكن على شاكلة نزق يريد الوصول إلى رئاسة الجمهورية بأي ثمن. ينبش التاريخ بحثًا عن الضغائن والموبقات والحساسيات، ليعود ويذهب بعيدًا في استفزاز وابتزاز كل المكونات بدون استثناء، ثم ما يبرح أن يرتصف في حلف الأقليات، وفي تشريع واقع سياسي وعسكري هجين ليحصد من وهج سلاحه وقوته مزيدًا من الحضور والمكابرة والاستعلاء، فيصير وزيرًا ونائبًا ورأسًا للجمهورية ورئيسًا للحكومة وناطقًا بإسمها ومقررًا لنهجها وسياساتها، متى غضب هددنا بقلب الطاولة فوق رؤوسنا، ومتى رضي صرنا جميعًا أهل ذمة في جمهورية أوهامه وأمراضه.
[START2]كلنا أمل أن لا ينتهي إلا بسقوط الهيكل فوق رؤوسهم جميعًا[END2]
ماذا يكون الانهيار إن لم تُجسده طغمة فاسدة نخرت جسد الدولة ونهبتها على مدى عقود طويلة، حيث أن أقصى مطالبنا باتت تُختصر بتأمين الكهرباء والماء والطبابة والتعليم والبيئة النظيفة، فيما لم تتجاوز أحلامنا منطق الحياة الكريمة بعيدًا من مقصلة الطائفية والمذهبية المقيتة، ومن سيف التوازنات والشعارات التي شرّعت الباب أمام تطويقنا وتحجيمنا ونسف كل محاولة لأخذ لبنان إلى مصاف الدول المرموقة والمحترمة.
هذا غيض من فيض الرخاء الذي كنا ننعم به قبل قيام الثورة بأيام قليلة، وهو رخاء معطوف على رغبتنا الدائمة بالتخريب وفتح الأبواب أمام التدخل الخارجي الذي يريد النيل من وحدتنا وقوتنا وصلابة موقفنا، وهذا بحد ذاته بداية الانهيار الذي نتحمل المسؤولية في نتائجه وربما في وقوعه، وكلنا أمل أن لا ينتهي إلا بسقوط الهيكل فوق رؤوسهم جميعًا.