إيران: مقاومة العقوبات سهلة لكنّ التعافي الاقتصادي معقّد

مدة القراءة 8 د

اسفنديار باتمانجيلدج

 

إيران هي أكثر دولة في العالم تعرّضًا للعقوبات. ومع ذلك، لا توجد سوى معرفة منهجية قليلة عن الآثار القصيرة والمتوسطة الأجل للعقوبات، في أنماط نموّ الاقتصاد الإيراني، وفي الرفاه العام للشعب الإيران سواء في المدن أو المناطق الريفية، وفي الديناميات المجتمعيّة، والمجال المدني، وبيئة البلاد. وغالبًا ما كان يبرز الاعتماد على عدد قليل من المقاييس، عندما تشتدّ العقوبات: من مِثل مدى انخفاض قيمة العملة، ونِسب التضخم، والركود، والتي تعقبها بعد ذلك زيادات في البِطالة والفقر. ولكنّ الصورة الأكثر شمولًا تضيع في النشاز السياسي حول مزايا السياسة المعتمدة.

وهذه هي الفجوة التي تسدّها “سايس” SAIS بمشروعها “إيران تحت العقوبات”، وهو عبارة عن نظرة متعمّقة في كلّ الزوايا حول تداعيات العقوبات على إيران. ويوفّر هذا البحث الأول من نوعه، دراسة حالة مفيدة بشأن استخدام العقوبات كأداة لأسلوب حكم. SAIS ، أو معهد بول نيتز للدراسات الدولية المتقدمة Paul H. Nitze School of Advanced International Studies، هو فرع من جامعة جون هوبكينز ومقرّها واشنطن. ويتربّع هذا المعهد على رأس معاهد العلاقات الدولية في العالم.

تصدر التقارير تِباعًا ما بين خريف 2020 وربيع 2021. وفي ما يلي موجز التقرير الأول، وهو بعنوان: المقاومة سهلة لكنّ التعافي الاقتصادي معقّد: العقوبات وتكوين التجارة الإيرانية Resistance is Simple, Resilience is Complex: Sanctions and the Composition of Iranian Trade.

 

هذه الورقة البحثيّة تتحدّى الحكمة التقليدية التي تقول إنّ العقوبات، المتعدّدة الأطراف منها، والمنفردة، المفروضة على إيران منذ عام 2008، قد عزلتها عن الاقتصاد العالمي. إنّ العقوبات المتعدّدة الأطراف أبطأت عددًا من عملياتها الاقتصادية المرتبطة بالعولمة، ولا سيما جاذبية الاقتصاد الإيراني لجلب الاستثمار الأجنبي والتكنولوجيا. لكن مع تدهور العلاقات مع الغرب، اعتمد المسؤولون الإيرانيون خطاب “اقتصاد المقاومة”، ما دفع عددًا من المحللين إلى الاعتقاد بأنّ مذهبهم الاقتصادي يتعارض تمامًا مع العولمة، أي رفض إيران للعالم، ردًّا على رفض العالم لإيران. ومع ذلك، فإنّ تحليل البيانات التجارية للمدة الزمنية ما بين عامي 2009 و2018، يوضح أنه بدلًا من رفض العولمة بشكل صريح، استجابت الجهات الفاعلة الاقتصادية الإيرانية، لضغط العقوبات، باستراتيجية وخيارات متكيّفة مع الجغرافيا والمنتَج، ما جعل مكوّنات التجارة أكثر تعقيدًا. بدوره، ومع ظهور أكبر لمستوى تعقيدات الجغرافيا والمنتَج، بات الاقتصاد الإيراني أكثر قدرةً على التكيّف مع ضغوط العقوبات، مع استمرار تدفق الواردات والصادرات المهمة، ما مكّن قطاع التصنيع من دعم الإنتاج والعمالة. إنّ إيران أنجزت المرونة الاقتصادية اللازمة في مواجهة العقوبات، من خلال مشاركة أكبر مع الاقتصاد العالمي، وليس بأقل مشاركة، ما يشير إلى فرص مستقبلية مهمة للدبلوماسية الاقتصادية.

إنّ فرض العقوبات المتعدّدة الأطراف بدءًا من عام 2008، وبلغت ذروتها مع العقوبات المالية في عام 2012، أثّرت في كثير من العلاقات التجارية. وعلى الرغم من المفهوم الشائع عن العقوبات كنوع من الحظر، فإنّ معظم البلدان لم تتوقف عن التجارة مع إيران. ولم تتأثر أصناف من التجارة مثل المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، بالعقوبات مباشرة. وعلاوةً على ذلك، لم ترتدع كلّ البلدان على قدم المساواة، بالعقوبات، بل حافظت على الروابط التجارية مع إيران.

هذه الورقة البحثيّة تتحدّى الحكمة التقليدية التي تقول إنّ العقوبات، المتعدّدة الأطراف منها، والمنفردة، المفروضة على إيران منذ عام 2008، قد عزلتها عن الاقتصاد العالمي

بالنسبة لصنّاع السياسات الإيرانية، فإنّ الاستجابة للعقوبات المفروضة، تركّزت على تحديد الشراكات التجارية التي ثبت أنها الأكثر حساسية لضغط العقوبات. وهذه الحساسية ناتجة عن عوامل عدة، بما في ذلك مستوى الاصطفاف السياسي مع الولايات المتحدة وأوروبا، وحجم قطاع المال في الاقتصاد (والتعرّض تاليًا للمخاطر الناجمة عن العقوبات الأوّلية التي تفرضها الولايات المتحدة)، ومدى تعرّض السلع المتداولة عادةً لعقوبات قطاعية. ومن أجل وضع تصوّر لهذه الدرجات من الحساسية، يمكن تصنيف كبار الشركاء التجاريين لإيران، في ثلاث فئات: أولئك الذين يعانون حساسيةً شديدة للعقوبات (مثل الاتحاد الأوروبي)، والدول الحساسة نوعًا ما (مثل الصين والهند)، والدول التي لا تعاني أيّ حساسية تجاه العقوبات على إيران (مثل العراق وأفغانستان). 

هذا التقسيم الجغرافي الجديد لشركاء إيران التجاريين، ومدى حساسيّتهم إزاء العقوبات الأميركية، دفع إلى تغييرات في الأسواق بحسب الفئات المشار إليها. وهو الاتجاه الذي يجسّده ظهور الصين بوصفها الشريك التجاريّ الأول، متجاوزةً الاتحاد الأوروبي. لكن لا يمكن لإيران الاعتماد ببساطة على الحكومات المتعاطفة معها، للحفاظ على السلع المتدفقة في مواجهة العقوبات. هي في حاجة إلى تقديم المنتجات المناسبة للأسواق العالمية. وقد ترسّخت شراكاتها التجارية الرئيسية منذ فترة طويلة، على بيع النفط إلى أوروبا الغربية والصين والهند اليابان، وهو ما كان يوفّر أدوات شراء السلع من تلك البلدان. لكن مع تعرّض مبيعات النفط بشكل خاص للعقوبات، كان لا بدّ من إعادة تكوين التجارة الإيرانية بمجموعة جديدة من المنتجات التي يمكن أن تباع مع مجموعة أوسع من الشركاء.

في العقد الممتد ما بين 1998 و2008، عندما شهدت إيران العولمة مثل كثير من الاقتصادات النامية حول العالم، تميّز تكوين تجارتها من خلال زيادة التعقيد الجغرافي. في 1998، كان لإيران 98 شريكًا للتصدير و67 من شركاء الاستيراد. وبعد عقد من الزمان كان تصدير السلع إلى 157 بلدًا والاستيراد من 119 دولة.

وما بين عام 1998 و2018، ارتفعت الصادرات من 14.5 مليار دولار إلى 85 مليار دولار ، في حين أنّ حصة الصادرات من المنتجات النفطية والغاز الطبيعي انخفضت من 79% إلى 64%. وباستثناء المنتجات الهيدروكربونية، ارتفعت الصادرات من 3.1 مليار دولار في عام 1998 إلى 25 مليار دولار بعد عقود. كما سجلت الواردات نموًّا كبيرًا، من 12.4 مليار دولار في عام 1998 إلى 54.6 مليار دولار في عام 2018، وهو العام الأخير الذي تتوافر عنه بيانات شاملة.

بالنسبة لصنّاع السياسات الإيرانية، فإنّ الاستجابة للعقوبات المفروضة، تركّزت على تحديد الشراكات التجارية التي ثبت أنها الأكثر حساسية لضغط العقوبات

من المهم ملاحظة أنّ إيران سعت إلى تحقيق المرونة الاقتصادية من خلال زيادة التبادل الاقتصادي، والسياسي تاليًا، مع المجتمع الدولي. وقد رفضت الجهود الرامية إلى اعتبارها دولة منبوذة، وطوّرت علاقات اقتصادية أعمق، مع البلدان غير الحسّاسة إزاء العقوبات الأميركية، ومع الدول الأخرى الحسّاسة إلى حدٍّ ما، في حين أنها أساسًا تسعى للحفاظ على العلاقات مع الدول الحسّاسة للغاية إزاء العقوبات المفروضة على إيران، ولا سيما بالنسبة للواردات. فالعقوبات قد دمجت جوانب مهمة من إيران مع الاقتصاد العالمي على نحوٍ أكثر عمقًا، وتناغم صنّاع السياسات بشكل كامل مع تعقيدات التجارة المعولمة، والشبكات المصرفية والخدمات اللوجستية التي تدعم التجارة.

إقرأ أيضاً: إيران: رفع جزئي للعقوبات مقابل اتفاق نووي معدّل (2/2)

وهناك اثنان من الآثار الرئيسة لكيفية استجابة إيران لمفاوضات جديدة محتملة مع الولايات المتحدة بشأن الاتفاق النووي:

– أولًا، هناك القدرة على تكييف علاقاتها التجارية. فقد أظهرت إيران مرونة اقتصادية أكبر مما كان يُفترض على نطاق واسع.

– ثانيًا، هناك الجهود الرامية إلى الحفاظ على التكامل مع الاقتصاد الدولي والتنمية الاقتصادية الضرورية، والتي تعطي المجتمع الدولي المزيد من الفرص لتحفيز إيران على ملاقاة الدبلوماسية الجديدة.

فالصناعات الإيرانية تُظهر استجابة عالية إزاء العقوبات في ما يتعلّق بالنموّ في الصادرات غير النفطية. وعليه، ينبغي رفع العقوبات الأميركية، فيما إيران، التي تتصدّى لمسار التعافي الاقتصادي، لن تكون معتمِدة حصريًّا على صادرات النفط. وعلى صنّاع السياسات من الإيرانيين والغربيين اغتنام الفرص التي يتيحها الاقتصاد الإيراني المعقّد الجديد.

 

* اسفنديار باتمانجيلدج: هو المؤسّس، والرئيس التنفيذي لمؤسسة بورصة وسوق Bourse & Bazaar Foundation، وهي مؤسسة فكرية تركّز على الدبلوماسية الاقتصادية المتقدمة، وعلى التنمية الاقتصادية والعدالة الاقتصادية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، ولا سيما إيران.

 

لقراءة النص الأصلي اضغط هنا 

 

 

مواضيع ذات صلة

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…