2023: الكنيسة الكاثوليكيّة أمام خطر انقسام ألماني (1/2)

مدة القراءة 6 د


2023 هو عام التحدّيات في الفاتيكان. خلاله واجهت الكنيسة الكاثوليكيّة خطر انقسام جدّي. خاصّة وأنّ الخطر أتى من ألمانيا، حيث حصل آخر انقسام في الكنيسة (1517) وأدّى إلى تأسيس الكنيسة البروتستانتية، التي انقسمت بدورها إلى كنائس.

منذ بداية حبريّته بدا البابا فرنسيس مختلفاً عن البابوات السابقين. خاصّة عن سلفه الراحل بنديكتوس الـ16. علاقة الصداقة بين الرجلين كما صوّرها فيلم The Two Popes، لا تعني تطابقاً في الإدارة الكنسيّة. اهتمام البابا الحالي الأوّل هو الإنسان. والرسالة الرعوية للكنيسة في سلّم أولويّاته. في حين أنّ البابا الراحل وضع العقيدة الكنسيّة والحفاظ عليها في سلّم أولوياته. ولا عجب في ذلك. فهو كان رئيس “مجمع العقيدة والإيمان” طوال حبريّة البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني التي استمرّت 26 عاماً. استطاع خلالها وبعد انتخابه بابا (2005-2013) أن يخلق تيّاراً محافظاً في الكنيسة الكاثوليكيّة. بعض أركان هذا التيار يقودون اليوم المعارضة ضدّ توجّهات البابا فرنسيس في الانفتاح.

بين عامَي 2019 و2023 عقدت كنيسة ألمانيا سينودساً خاصّاً بها. صوّت بنهايته المشاركون على 15 قراراً وضعت الكنيسة الكاثوليكيّة أمام تحدّيات كبيرة تهدّد بانقسامها

“شكوك”… و”دوبيا”

قبل التفصيل تجدر الإشارة إلى أنّ المعارضة للبابوات قديمة في الكنيسة. بيد أنّ أصواتها كانت تبقى داخل أسوار الفاتيكان العالية ولا تُسمع إلا في اجتماعات الكنيسة المغلقة. في حين أنّ المعارضة الحالية “صوتها عالٍ”، كما يقول أحد اللاهوتيين.

في 10 تموز 2023 وجّه خمسة كرادلة معارضين للبابا فرنسيس رسالة عُرفت بـ”دوبْيا” (Dubia). وهي كلمة لاتينيّة تعني “شكوك”. طرحوا فيها مواضيع جوهرية تتعلّق بلاهوت الكنيسة الكاثوليكيّة وتعاليمها الأخلاقيّة. وطلبوا من البابا “توضيحات” بشأنها. لم يتجاهل البابا الرسالة ولم يضعها في أدراج الفاتيكان حيث تُحفظ أسرار الكنيسة العميقة. خاصّة وأنّ الكرادلة الذين حرّروا الـ “دوبْيا” لديهم تأثير كبير في الكنيسة. فالألماني فالتر براندمولِر هو من أبرز اللاهوتيين المعاصرين. والأميركي ريمون ليو بورك من أبرز المحافظين، وكان جريئاً وصلباً في معارضته للبابا. وهو ما دفع هذا الأخير إلى اتّخاذ تدبير بحقّه في تشرين الثاني المنصرم غادر على أثره بورك الشقّة التي كان يشغلها في الفاتيكان وأُوقف راتبه. أمّا المواضيع التي تناولتها الـ”دوبْيا” فهي:

– تفسير الوحي الإلهي انسجاماً مع التبدّل في الثقافات والإنسانيّات (أنتروبولوجيا).

– بركة المثليّين التي بدأ بإعطائها بعض الأساقفة والكهنة في ألمانيا وبلجيكا، وانسجامها مع الوحي الإلهي وتعاليم الكنيسة.

– السينودسيّة في الكنيسة ومشاركة العلمانيين في إدارتها. وهي مسألة لاهوتيّة لها علاقة بالسُلطان المعطى للأساقفة في الحفاظ على الإيمان الكاثوليكيّ وتعاليمه.

– دور المرأة في الكنيسة وإمكانية نيلها الدرجات الكهنوتيّة.

– شرط توبة الخاطئ عن خطيئته لمنحه الغفران. وهي مسألة لاهوتيّة تتعلّق بسرّ التوبة والغفران في الكنيسة الكاثوليكيّة.

قبل التفصيل تجدر الإشارة إلى أنّ المعارضة للبابوات قديمة في الكنيسة. بيد أنّ أصواتها كانت تبقى داخل أسوار الفاتيكان العالية ولا تُسمع إلا في اجتماعات الكنيسة المغلقة. في حين أنّ المعارضة الحالية “صوتها عالٍ”، كما يقول أحد اللاهوتيين

طرح الكرادلة الخمسة هذه “الشكوك” في وقت كانت الكنيسة تستعدّ لعقد الدورة الأولى من سينودس الأساقفة (تشرين الأول المنصرم) الذي بدأت تحضيراته في 2021. وهو سينودس غير مسبوق في تاريخ الكنيسة لثلاثة أسباب:

1- مشاركة عدد كبير من العلمانيين وإعطائهم حقّ التصويت على القرارات. وهو ما يؤسّس لمشاركة أكثر فاعلية للعلمانيين في الشؤون الكنسيّة تتخطّى المسائل الإدارية والماليّة.

2- مناقشة مواضيع جوهريّة من شأنها تغيير العديد من المفاهيم اللاهوتيّة في الكنيسة، خاصّة في رسالتها الرعويّة.

3- انعقاده في ظلّ وجود تيّارين يتجاذبان الكنيسة الكاثوليكيّة: الأوّل منفتح تمثّله كنيسة ألمانيا، والثاني محافظ تمثّله كنيسة الولايات المتحدة الأميركيّة. وهما الكنيستان الأكثر تأثيراً والأغنى في الكنيسة الكاثوليكيّة.

خطر الانقسام

لم يقتنع الكرادلة بتوضيحات البابا فرنسيس، فعادوا وبعثوا بـ”دوبْيا” أخرى خلال انعقاد سينودس الأساقفة (تشرين الأول 2023). وهو ما خلق بلبلة بين المشاركين على ما يفيد أحدهم، خصوصاً وأنّ السينودس انعقد في وقت تواجه فيه الكنيسة الكاثوليكيّة خطر انقسام حقيقيّ وجِدّي… خطر مصدره ألمانيا.

بين عامَي 2019 و2023 عقدت كنيسة ألمانيا سينودساً خاصّاً بها. صوّت بنهايته المشاركون على 15 قراراً وضعت الكنيسة الكاثوليكيّة أمام تحدّيات كبيرة تهدّد بانقسامها. أبرز هذه القرارات إعطاء البركة للمثليين وإعطاء درجة الشمّاسيّة للمرأة (وهي درجة تسبق الكهنوت المُعطى للكاهن). حاول البابا فرنسيس التخفيف من اندفاعة الكنيسة الألمانيّة. بعث برسالة إلى المجتمعين في سينودسها يحثّهم فيها على ألّا يذهبوا بعيداً في طروحاتهم وأن “يحافظوا على الوحدة الحيّة والفعّالة مع كامل جسم الكنيسة”. استجاب المشاركون جزئياً لطلب البابا. لم يطبّقوا مقرّرات السينودس فوراً. بيد أنّهم حدّدوا عام 2026 موعداً للبدء بتطبيقها. العديد من رجال الدين رأوا في هذه القرارات خطر انقسام في الكنيسة الكاثوليكيّة.

إقرأ أيضاً: انحسار الإسلاميّين واستمرار “الإسلاموفوبيا”

قبل أن يُطفئ العام الماضي شمعته، بدا أنّ البابا فرنسيس يلاقي كنيسة ألمانيا في توجّهاتها. خلال أعمال السينودس خصّص الراهبة جانين غراميك (أميركيّة)، والمعروفة بـ “راهبة LGBT”، بلقاء خاص في مكتبه، عِلماً أنّ كتابات هذه الراهبة ونشاطها في الدفاع عن المثليين كانا محظورين خلال حبريّة البابا الراحل بنديكتوس الـ16. وفي لقائه مع أعضاء اللجنة اللاهوتيّة الدوليّة قال إنّ “الكنيسة امرأة” ويجب التخفيف من “رجوليّتها” عبر إعطاء دور أكبر للمرأة. كلام يفتح الطريق واسعاً لنيل المرأة الدرجات الكهنوتية في الكنيسة الكاثوليكيّة بعدما نالتها في الكنيسة الأنغليكانيّة، وهو ما أدّى حينها إلى توتّر كبير بين الكنيستين وإلى خروج بعض القساوسة من الأنغليكانية وعودتهم إلى الكاثوليكيّة.

قبل أن يطفئ عام 2023 شمعته صدر عن “مجمع العقيدة والإيمان” إعلان “حول معنى البركات” وموضوعه الأساسي بركة المثليين. شكّل الإعلان صدمةً داخل الكنيسة وخارجها. أحد رجال الكنيسة طرح السؤال: “إلى أين يقود البابا فرنسيس الكنيسة؟”.

*غداً شرح إعلان “معنى البركات”

مواضيع ذات صلة

حلب تعكس عمق مأزق إيران والحزب… والنّظام السّوريّ

يرفض الحزب أخذ العلم بما حلّ به وبلبنان. يصرّ على أنّه حقّق انتصاراً على إسرائيل متجاهلاً كلّ ما له علاقة بالواقع. يشير هذا التجاهل للواقع…

إيران في سوريا: العسل المرّ

منطق “شرعيّة” وجود مجموعات الحزب والميليشيات الإيرانية على الجبهات في سوريا يقول إنّ النظام في دمشق هو من طلب. وإنّ هذه القوى هي التي استجابت….

7 عسكريين إسرائيليين يجيبون: لماذا لم “نقضِ” على الحزب؟

خاضت إسرائيل الحرب ضدّ الحزب في لبنان تحت عنوان سياسي كبير: “إضعاف إيران يبدأ بإضعاف أذرعها”. وكان أوّل أهدافها السياسية المباشرة تفتيت “وحدة الساحات”، وعزل…

سوريا: أخطاء الأسد… أعادت المتطرّفين

أخطأ الرئيس بشار الأسد عندما تصرّف وكأنّه المنتصر في الحرب قبل أن تضع أوزارها ويستعيد السيطرة على كامل الأراضي السورية. اتّكأ على إيران وروسيا أكثر…