كانت سنة 2023، التي لم يعد سوى أيّام قليلة على نهايتها، سنة المرحلة الأخيرة من عملية تفكيك لبنان التي بدأت قبل 18عاماً. كان ذلك عن طريق ضرب حجر الزاوية لمشروع إعادة الحياة إلى البلد وإلى بيروت تحديداً، عبر اغتيال رفيق الحريري والمشروع الذي سعى إلى تنفيذه على أرض الواقع بدءاً بإعادة إعمار العاصمة.
إذا كانت حرب غزّة وما تلاها من ردود فعل لـ”الحزب” على صعيد فتح جبهة جنوب لبنان، من دون فتحها، كشفا شيئاً، فهما كشفا أنّ لبنان الذي عرفناه لم يعد قائماً. متى يولد لبنان جديد من رحم حرب غزّة؟ وهل من مجال لولادة لبنان الجديد هذا؟ يطرح السؤال نفسه في ضوء تفاعلات تلك الحرب. لا توجد تفاعلات لحرب غزّة في الداخلين الفلسطيني والإسرائيلي فحسب، بل يبدو لبنان مرشّحاً لأن يكون “ساحة” من الساحات المرتبطة بما يدور في غزّة. يحصل ذلك خصوصاً في ضوء قرار “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران القاضي باستخدام الجنوب اللبناني والمخيّمات الفلسطينية ووجود “حماس” في هذه المخيّمات القائمة على الأرض اللبنانيّة إلى أبعد حدود متاحة.
هل يعود لبنان؟
لا مجال لعودة لبنان إلى ما كان عليه في الماضي القريب حيث كان هناك دائماً شعاع أمل بنهوض البلد مجدّداً. يعود الذهاب بعيداً في التشاؤم، بالنسبة إلى مستقبل لبنان، لسبب في غاية البساطة. يتمثّل السبب في وضع الحزب، ومن خلفه إيران، اليد نهائياً على البلد عبر امتلاكهما قرار الحرب والسلم من دون حسيب أو رقيب، ومن دون طرف داخلي جدّي، أو عربي، أو أوروبي أو أميركي، يطرح مجرّد سؤال يتناول ما الذي تفعله إيران من خلال نصف الحرب في جنوب لبنان وما الذي تريده فعلاً من نصف الحرب هذه؟
لا مجال لعودة لبنان إلى ما كان عليه في الماضي القريب حيث كان هناك دائماً شعاع أمل بنهوض البلد مجدّداً
يترافق وضع اليد الإيرانيّة على قرار الحرب والسلم اللبناني في وقت يوجد على أعلى المستويات في إسرائيل مَن يعتقد أنّ الوضع القائم في جنوب لبنان لا يمكن أن يستمرّ إلى ما لا نهاية. لم يعد مهمّاً هل يلتزم الحزب، ومن خلفه إيران، قواعد الاشتباك المتّفق عليها مع إسرائيل. المهمّ الخوف من انتقال الوحشيّة الإسرائيلية التي ظهرت في غزّة إلى لبنان. لم يتردّد غير مسؤول إسرائيلي في التهديد بمصير لبيروت ومناطق لبنانية أخرى شبيه بمصير غزّة. في غزّة فشلت إسرائيل، أقلّه إلى الآن، في القضاء على “حماس” التي لا تزال تطلق رشقات صاروخيّة من القطاع. جعل ذلك إسرائيل تعتمد نهجاً آخر يقوم على تحويل قطاع غزّة إلى أرض غير قابلة للحياة فيها.
لم يعد من شكّ في أنّ حرب غزّة لن تنتهي قريباً. مع استمرار الحرب ومآسيها ثمّة حسابات إيرانيّة وأخرى إسرائيليّة في ما يتعلّق بلبنان. ليس معروفاً متى ستتّخذ إسرائيل قراراً بتدمير لبنان في غياب القدرة على تدمير “الحزب”. لكنّ المعروف، في المقابل، وجود جهود إيرانيّة لتأكيد أنّ لبنان بات يُحكم من طهران وليس من أيّ مكان آخر. لا تأخذ إيران في الاعتبار مصلحة لبنان واللبنانيين، بمن في ذلك أهل الجنوب من شيعة وغير شيعة.
التغوّل الإيراني
يظلّ آخرَ دليل على مدى التغوّل الإيراني على لبنان ذانك الأخذ والردّ في ما يخصّ التمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون أو عدم التمديد له. لم يعد التمديد مهمّاً بمقدار ما أنّ المهمّ صار توجيه رسالة إلى كلّ من يعنيه الأمر أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” قادرة على الإمساك بآخر مؤسّسة لبنانيّة تقع خارج سيطرتها نسبياً، طبعاً.
من السيطرة على قرار الحرب والسلم، والسيطرة على موقع رئاسة الجمهورية في ظلّ الفراغ أو في ظلّ وجود رئيس من طينة ميشال عون وصهره جبران باسيل في قصر بعبدا… والسيطرة على المخيّمات الفلسطينية، تستكمل إيران عبر مناورتها المرتبطة بالتمديد لقائد الجيش عملية تفكيك البلد ومؤسّساته… أو ما بقي منها.
الأكيد أنّ ما ستسفر عنه حرب غزّة مهمّ جداً لإيران، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار علاقتها العضوية بحركة “حماس”، لكن يبقى الأهمّ من ذلك كلّه كيفية استخدامها لهذه الحرب عراقيّاً وسوريّاً ويمنيّاً ولبنانيّاً.
سارعت “الجمهوريّة الإسلاميّة” طوال حرب غزّة التي دخلت شهرها الثالث إلى إثبات أنّها الآمر الناهي في العراق وأنّ حكومة محمّد شياع السوداني ليست سوى حكومة ظلّ لـ”الحشد الشعبي” وميليشياته. تدير اللعبة ذاتها في سوريا حيث تمارس لعبة تهريب المخدّرات والسلاح إلى الأردن وإلى دول الخليج العربي. تسعى في كلّ يوم إلى تأكيد أنّ الحوثيين في اليمن، الموجودين في ميناء الحديدة، يتحكّمون بخطّ الملاحة في البحر الأحمر، وهو خطّ يمتدّ من مضيق باب المندب ويصل إلى قناة السويس… وميناءَي إيلات الإسرائيلي والعقبة الأردني.
يدفع لبنان ثمن حشره غصباً عنه في حرب غزّة على الرغم من الوضوح في نصّ قرار مجلس الأمن الرقم 1701 الذي لم يحترمه “الحزب” يوماً بعدما قبل بكلّ كلمة فيه عندما صار محشوراً في الزاوية في الأيّام الأخيرة من حرب صيف عام 2006.
إقرأ أيضاً: رغبة لبنانيّة متجذّرة في الانتحار!
تبدو حرب غزّة فرصة لن تتردّد إيران في استغلالها لبنانيّاً عبر أدواتها المحليّة. لا تقتصر الأدوات الإيرانيّة على “الحزب” ما دام “التيار العوني” الذي يتزعّمه جبران باسيل موجوداً. يشجّعها على ذلك انشغال العالم بلبنان من زاوية واحدة هي زاوية منع توسّع الحرب التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني وغزة نفسها، وهي حرب تبدو مستمرّة في غياب استعداد أميركي، أسبابه داخليّة، للقول لبنيامين نتانياهو أن كفى تعني كفى…