بعد تقسيمها فعليّاً إلى شمال وجنوب، تواجه الخريطة السودانيّة الكبرى خطر تفكّك جديد، هذه المرّة على قاعدة جغرافيّة–عسكريّة: شرق يخضع لسيطرة الجيش السودانيّ، وغرب تهيمن عليه ميليشيا “قوّات الدعم السريع” التي وسّعت انتشارها في إقليمَي دارفور وكردفان.
في المقلب الآخر من البحر الأحمر، تبدو الخريطة اليمنيّة بدورها مهدَّدة بالعودة إلى ما قبل وحدة عام 1990، مع انشطار متجدّد بين يمنٍ شماليّ تُسيطر عليه جماعة الحوثيّ بالقوّة، ويمنٍ جنوبيّ تسعى ميليشيات “المجلس الانتقاليّ الجنوبيّ” إلى السيطرة عليه، عقب تحرّكاتها العسكريّة المفاجئة في محافظتَي المهرة وحضرموت، من دون إخفاء نيّتها إقامة “دولة الجنوب العربيّ” الممتدّة من المخا غرباً إلى نشطون شرقاً، أي من باب المندب حتّى حدود سلطنة عُمان.
تركّز “قوات الدعم السريع” هجماتها في السودان على مناطق الثروات، ولا سيما النفطيّة منها، مثل هجليج وبابنوسة، إضافة إلى مدينة الأبيض عاصمة الصمغ العربيّ، فيما يركّز “المجلس الانتقاليّ” في اليمن على الموانئ الاستراتيجيّة على بحر العرب وحقول النفط في الوادي الحضرميّ. في الحالتين، لا تبدو المعارك صراعاً على السلطة، بل صراع على الموارد والممرّات الحيويّة.
البعد الإقليميّ للحربين
ما يجري في السودان يتجاوز البعد المحلي إلى البعد الإقليمي، وكذلك الحال في اليمن. مصر معنية مباشرة بما يحدث في جنوب وادي النيل، حيث تمتد حدودها مع السودان لمسافة تقارب 1280 كيلومتراً. كانت الدولتان، قبل عقود، كياناً واحداً. لذلك تبقى القاهرة الفاعل الإقليمي الأكثر حساسية تجاه مسار الحرب السودانية، بحكم الجوار الجغرافي، وتشابك الملفات الأمنية، ومخاوف انهيار الدولة السودانية بما يحمله من تداعيات مباشرة على الأمن القومي المصري، وفي مقدّمها ملف مياه النيل.
مصر ترى في السودان عمقاً استراتيجياً لا يحتمل التفكك، وتفضّل دعم الجيش بوصفه المؤسسة الوحيدة القادرة على منع الانهيار الكامل
في المقابل، تتابع السعودية التطورات السودانية من الضفة الأخرى للبحر الأحمر، انطلاقاً من إدراكها أنّ السودان لم يعد ساحة صراع داخلي فحسب، بل مسرحاً مفتوحاً لتقاطعات إقليمية ودولية، تتداخل فيه اعتبارات أمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي مع مخاطر الانهيار الشامل وتدفّقات اللجوء والتهديدات العابرة للحدود.
أما في اليمن، فالمملكة معنية بشكل مباشر بما يجري على حدودها الجنوبية التي تتجاوز 1400 كيلومتر. اليمن يشكّل عمقاً استراتيجياً للأمن السعودي، ولن تسمح الرياض بتحوّله إلى ساحة عبث لقوى أو ميليشيات تستخدمه أداة ضغط أو تهديد أو نفوذ لصالح أطراف إقليمية ودولية. من هذا المنطلق، جاء قرار تشكيل تحالف دعم الشرعية قراراً استراتيجياً، رغم كلفته العالية. على الرغم من قناعة السعودية بعدالة القضية الجنوبية، إلا أنها ترى أنّ حلّها لا يكون بالقوة أو بالخروج على مجلس القيادة الرئاسي، بل في إطار تسوية سياسية شاملة وحوار وطني جامع. ما يزيد من انزعاج الرياض أنّ تحركات «المجلس الانتقالي» الانفصالية تأتي في ذروة تركيزها على توحيد الصف اليمني في مواجهة انقلاب الحوثيين، بما يشكّل هدية مجانية لـ«أنصار الله» لتبرير انفصال الشمال.
لا تستطيع مصر، بدورها، تجاهل ما يجري عند باب المندب، بوابة البحر الأحمر والشريان الحيوي لقناة السويس، إذ إنّ أيّ تهديد للممر الملاحي ينعكس مباشرة على أحد أهم مصادر العملة الصعبة للاقتصاد المصري.
الإمارات تميل إلى إدارة التفكك
في هذا المشهد المعقّد، تقف الإمارات العربية المتحدة في موقع مختلف. هي تدعم علناً «المجلس الانتقالي الجنوبي» في اليمن سياسياً وعسكرياً ومالياً، فيما يتهمها الجيش السوداني بتقديم دعم واسع لـ«قوات الدعم السريع». من الصعب تجاهل أنّ الاندفاعة العسكرية والسياسية لكل من «الدعم السريع» في السودان و«الانتقالي» في اليمن ما كانت لتتحقق لولا هذا الدعم، في ظل عجز البيانات والتحذيرات و«الخطوط الحمراء» عن كبحه.
لا تستطيع مصر، بدورها، تجاهل ما يجري عند باب المندب، بوابة البحر الأحمر والشريان الحيوي لقناة السويس
هكذا، لم يعد التباين بين السعودية والإمارات في اليمن والسودان مجرّد اختلاف في الأساليب داخل تحالف واحد، بل تحوّل إلى خلاف بنيوي حول مفهوم الدولة نفسه. بينما تراهن الرياض، ببراغماتية حذرة، على بقاء الدولة المركزية كإطار جامع يمكن احتواؤه وضبطه، تميل أبوظبي إلى مقاربة تقوم على إدارة التفكك وبناء النفوذ عبر قوى محلية مسلّحة واقتصاديات نزاع.
التباين ذاته ينسحب على العلاقة المصرية– الإماراتية في السودان. مصر ترى في السودان عمقاً استراتيجياً لا يحتمل التفكك، وتفضّل دعم الجيش بوصفه المؤسسة الوحيدة القادرة على منع الانهيار الكامل. في المقابل، تنظر الإمارات إلى مؤسسات الدولة السودانية باعتبارها مخترقة من أحزاب الإسلام السياسي وعاجزة، وتراهن على قوى أكثر مرونة وقدرة على الضبط، في إطار حسابات اقتصادية وأمنية عابرة للمؤسسات.
هدوء يسبق العاصفة
على الرغم من الهدوء النسبي في جنوب اليمن، وسط اتصالات سياسية تُجرى بعيداً عن الأضواء لاحتواء التصعيد، تشير المعطيات إلى أنّ الأوضاع تتجه نحو مزيد من التوتر السياسي، مع عدم استبعاد التصعيد العسكري، في ظل استمرار التحشيد ووصول تعزيزات متواصلة إلى مطار الريان في المكلا، فضلاً عن رصد حركة سفن إلى عدن. ترى مصادر يمنية أنّ «المجلس الانتقالي» ارتكب خطأً استراتيجياً فادحاً عندما وضع السعودية في موقع الخصم.
ما يجري في السودان يتجاوز البعد المحلي إلى البعد الإقليمي، وكذلك الحال في اليمن. مصر معنية مباشرة بما يحدث في جنوب وادي النيل
في السودان، تواصل الرياض، التي استقبلت قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، تنسيقها مع القاهرة وواشنطن لمحاولة إعادة ضبط موازين النفوذ حول الحرب، وإعادة تثبيت موقع المؤسسة العسكرية ضمن معادلة الوساطات المتعثرة.
أما القاهرة، التي استقبلت البرهان بدورها، فأعلنت للمرة الأولى عن «خطوط حمر» لا يمكن تجاوزها، ملوّحة بتفعيل اتفاق الدفاع المشترك، في ظل مخاوف متزايدة من تكريس واقع التقسيم، مع تقدّم «قوات الدعم السريع» ومحاولتها فرض سلطة موازية غير معترف بها دولياً. وهو ما جدد التساؤل في شأن إمكان تدخل مصر عسكرياً في الجار الجنوبي، في ظل التراجع الميداني للجيش السوداني خلال الأسابيع الأخيرة.
إقرأ أيضاً: اليمن على خطى السّودان: التّفكّك واقعٌ لا سيناريو
هل يقف السودان واليمن على حافة إعادة رسم الخرائط، لا بقرارات دولية، بل بالقوة والمال والموارد؟
