إسرائيل تنهش الضّفّة: استراتيجية ممنهجة لمحو الدولة

مدة القراءة 6 د

لم تُعلن إسرائيل رسميّاً ضمّ الضفّة الغربيّة، لكنّها تعمل على تحقيق ذلك يوميّاً على الأرض، ضمن استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة تشكيل الجغرافيا الفلسطينيّة، بما يؤدّي ضمنيّاً إلى تغيير ديمغرافية المنطقة. تستند هذه الاستراتيجية إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينيّة، وتفتيت التجمّعات السكّانيّة وتحويلها إلى جيوب معزولة ومحاصَرة، وهو ما يعكس خطّة إسرائيليّة محكمة لاستمرار الهيمنة على الأرض.

 

 

تُعدّ المشاريع الاستيطانيّة الأداة الأكثر فاعليّة في محو الجغرافيا الفلسطينيّة وإعادة تشكيلها. وقد شهد هذا المشروع تسارعاً غير مسبوق في ظلّ الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة، مع توقّعات لزيادة وتيرة هذا النشاط خلال الأشهر الباقية من عمر الحكومة اليمينيّة، قبيل الانتخابات العامّة المقرّرة في تشرين الثاني 2026. يأتي هذا التوجّه في إطار جهود واضحة لتكريس وجود استيطانيّ دائم يهدف إلى تثبيت السيطرة على الأراضي الفلسطينيّة بشكل نهائيّ.

تغيير وجه الضّفّة بالكامل

تجلّى هذا التوجّه أخيراً بقرارات الحكومة الإسرائيليّة، التي كان آخرها مصادقة “الكابينت” الإسرائيليّ في 11 كانون الثاني على إقامة 19 مستوطنة جديدة في الضفّة الغربيّة، بينها مستوطنتا “غنيم” و”كديم” في شمال الضفّة، اللتان أُخليتا عام 2005.

تُعدّ المشاريع الاستيطانيّة الأداة الأكثر فاعليّة في محو الجغرافيا الفلسطينيّة وإعادة تشكيلها. وقد شهد هذا المشروع تسارعاً غير مسبوق في ظلّ الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة

وضعت الحكومة الإسرائيليّة شمال الضفّة الغربيّة على رأس أولويّاتها الاستيطانيّة، وبدأت بتنفيذ ذلك تدريجاً عبر إعادة المستوطنين إلى مناطق مثل “حومش”، بناء بنى تحتيّة جديدة وشقّ طرق، الاستيلاء على أراضٍ، إلى جانب تكثيف الحواجز والبوّابات الحديديّة، وحوّلت شمال الضفّة إلى منطقة عسكريّة مفتوحة من خلال عمليّات متواصلة أسفرت عن تدمير ثلاثة مخيّمات في جنين وطولكرم وتهجير تجمّعات بدويّة وسكّانيّة والسيطرة على أراضيها.

لا تقتصر هذه السياسة على شمال الضفّة، بل تشمل معظم المحافظات، وأدّت منذ تشرين الأوّل 2023 إلى تهجير 33 تجمّعاً بدويّاً وإقامة نحو 900 حاجز وبوّابة عسكريّة، وهو ما حرم الفلسطينيّين من الوصول إلى مئات آلاف الدونمات الزراعيّة، من ضمن عمليّة ممنهجة لمحو الجغرافيا الفلسطينيّة من أجل الاستيطان.

في هذا الإطار، يبرز الراعي الرئيس لهذا المشروع وزير الماليّة الإسرائيليّ بتسلئيل سموتريتش الذي أعلن أضخم خطّة استيطانيّة من نوعها تهدف إلى تغيير وجه الضفّة الغربيّة بالكامل، وتمثّل ترجمة عمليّة لمشروع ضمّها. وتمتدّ الخطّة لخمس سنوات، وخُصّصت لها ميزانيّة من 2.7 مليار شيكل (نحو 841 مليون دولار) لإقامة 17 مستوطنة جديدة.

تخصّص الخطّة 1.1 مليار شيكل لتعزيز المستوطنات، منها 660 مليون شيكل للمستوطنات الجديدة، و338 مليوناً لـ36 مستوطنة وبؤرة استيطانيّة قيد التنظيم، وتشمل إنشاء البنية التحتيّة الأساسيّة من مياه وصرف صحّيّ وكهرباء، ومباني عامّة مثل المعابد والمدارس والنوادي، إلى جانب إقامة “مستودعات استيعاب” تضمّ نحو 20 كارافاناً للعائلات، تمهيداً للتوسّع المستقبليّ. وتخصّص 300 مليون شيكل إضافيّة لجميع المستوطنات الجديدة، و434 مليوناً للمستوطنات القديمة، و300 مليون شيكل لدعم المجالس والسلطات المحليّة.

في البعد الأمنيّ، خصّصت الخطّة 140 مليون شيكل لتعزيز حواجز الطرق، و150 مليوناً لحماية حافلات المستوطنين على مدى ثلاث سنوات. وتشمل نقل ثلاث قواعد عسكريّة إلى شمال الضفّة، وتطوير المستوطنات وشقّ الطرق، بما يعزّز السيطرة الإداريّة والعسكريّة على المناطق المستهدَفة.

يُعدّ إنشاء وحدة “الطابو” الأخطر في هذه الخطّة التي خصّصت لها 225 مليون شيكل بهدف رسم خرائط جديدة ونقل قوائم الأراضي إلى وحدة خاصّة بالضفّة الغربيّة لتنظيم نحو 60 ألف دونم ووضع اليد عليها بحلول عام 2030، وهو ما يعكس استراتيجية إسرائيليّة لتعزيز السيطرة القانونيّة والإداريّة على الأراضي.

وضعت الحكومة الإسرائيليّة شمال الضفّة الغربيّة على رأس أولويّاتها الاستيطانيّة، وبدأت بتنفيذ ذلك تدريجاً عبر إعادة المستوطنين إلى مناطق مثل “حومش”

في مسار موازٍ، شرعت إسرائيل في بناء مقاطع أوّليّة من جدار جديد في غور الأردن وسهل مرج بن عامر على الحدود مع الأردن بطول 80 كيلومتراً، ضمن مشروع أكبر تصل تكلفته إلى 5.5 مليارات شيكل ويشمل إقامة منظومة أمنيّة متعدّدة الطبقات تمتدّ من هضبة الجولان المحتلّة إلى شمال مدينة إيلات وتعزيز الاستيطان على طول الحدود، بما في ذلك مستوطنات جديدة ومناطق تشغيل وشبكات مواصلات ومياه ومشاريع زراعيّة وخدمات صحّية لتدعيم السيطرة الإسرائيليّة على الضفّة بأكملها.

فرض الوقائع على الأرض

المدير العامّ للنشر والتوثيق في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، أمير داوود قال لـ”أساس”، إنّ حكومة بنيامين نتنياهو تُعدّ “حكومة استيطان بامتياز”، مشيراً إلى أنّ تشكيلها جاء عبر اتّفاقات ائتلافيّة مع بتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن غفير جوهرها استيطانيّ وتهدف للسيطرة على الأرض الفلسطينيّة وتغيير القوانين الناظمة للأراضي.

أضاف: “ما جرى التوافق عليه بين مكوّنات الحكومة كان أقرب إلى الأحلام حتّى السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل، واستغلّ الاحتلال أحداث ذلك اليوم للانقضاض على الضفّة وفرض وقائع جديدة على الأرض”، معتبراً أنّ “هذه اللحظة لن تتكرّر، ولذلك تمّ إخراج كلّ المخطّطات من الأدراج والبدء بالعمل عليها”.

أوضح داوود أنّ “عام 2025 شهد إعلان عدّة قرارات خطِرة، أبرزها قرار إنشاء 22 مستوطنة جديدة في آذار، وقرار فصل 13 حيّاً استيطانيّاً في أيّار واعتبارها مستوطنات مستقلّة، مع تخصيص مبالغ للشروع في تسوية أوضاع المستوطنات أو بنائها أو تنفيذ مشاريع البنية التحتيّة، وقرار “الكابينت” المصادقة على إقامة 19 مستوطنة جديدة ترتبط مباشرة بالقرارين السابقين”.

إقرأ أيضاً: مجلس السّلام في غزّة: يمنع انفجاراً… ولا يُحرِّر

لفت داوود إلى مسألة لا تقلّ خطورة عن إنشاء المستوطنات تتعلّق بالمخطّطات الهيكليّة لتوسعة المستوطنات القائمة مع السماح بعقد جلسة أسبوعيّة لمجلس التخطيط، بدل أربع جلسات سنويّاً، للنظر في تلك المخطّطات، وهو ما أتاح تقديم أكبر عدد ممكن من المخطّطات لها. بينما بلغ مستوى مصادرة الأراضي بذريعة “أراضي دولة” أرقاماً غير مسبوقة، فخلال عامَي الحرب صودرت نحو 27 ألف دونم ، وهو نصف ما صادرته إسرائيل خلال ثلاثة عقود.

أمّا البؤر الاستيطانيّة فأوضح داوود أنّه تتمّ إقامة شبه يوميّة لبؤرة استيطانيّة جديدة: “ارتفع عددها من 12 بؤرة في 2022 إلى 18 في 2023، و57 في 2024، بينما لا يقلّ عدد البؤر في العام الحاليّ عن 50، في مؤشّر إلى توجيهات حكوميّة لفرض أكبر قدر من الوقائع على الأرض بهدف إعدام أيّ إمكان لقيام دولة فلسطينيّة”.

 

مواضيع ذات صلة

الفاتيكان تلقّى تجاوباً أميركيّاً يُعفي لبنان من الحرب؟

هل يستند الرئيس اللبنانيّ العماد جوزف عون إلى معطيات صلبة دفعته إلى القول إنّ “شبح الحرب ابتعد”؟ على طريقته فسّر الخشية من تجدّد الحرب بقوله…

مأزق إيران: “فيل الغرفة” الذي لا يراه ظريف

قلّما يتّفق المحلّلون على توصيف الواقع السياسيّ والاجتماعيّ الإيرانيّ، غير أنّ إجماعاً آخذاً في التشكّل بات يجمع طيفاً واسعاً ومتناقضاً من أصحاب الرأي على حقيقة…

المفاوضات: آخر “مقامرات” لبنان لتفادي الحرب الشاملة..

في الثالث من كانون الأوّل 2025، أعادت الناقورة مشهداً غاب منذ عقود: مسؤولون مدنيّون لبنانيّون وإسرائيليّون يجلسون وجهاً لوجه برعاية أميركيّة مباشرة. يقدِّم الخطاب الدبلوماسيّ…

من النّزاع العربي – الإسرائيلي إلى النّزاع الإيراني – الإسرائيلي

بعد حرب 1967 انخرط لبنان عسكريّاً في النزاع العربيّ – الإسرائيليّ من الباب الخلفيّ، أي من خارج إطار الدولة. مع اتّفاق القاهرة في 1969 انطلق…