صندوق استرداد الودائع: “هيركات” بمكياج قانونيّ

مدة القراءة 8 د

خرجت مسوّدة قانون الفجوة الماليّة بفلسفة جديدة تقوم على نقل الودائع القديمة من ميزانيّات المصارف إلى صندوق استثماريّ مشترك ينشئه مصرف لبنان، باسم “صندوق استرداد الودائع”،

على أن يتمّ تعزيزه بإيرادات أصولٍ ممتازة يملكها مصرف لبنان، ومنها الذهب.

 

تنصّ مسوّدة القانون، المعنوَن رسميّاً باسم “قانون الانتظام الماليّ واسترداد الودائع”، على أن تسدّد المئة ألف دولار الأولى لكلّ مودع عدّاً ونقداً على أربع دفعات سنويّة متساوية، من خلال مؤسّسة ضمان الودائع، على أن يتحمّل مصرف لبنان والبنوك التكلفة بالتساوي. أمّا الأرصدة التي تتجاوز هذا الحدّ، فيُصدِر الصندوق شهادات ماليّة برصيدها، بفائدة 2% سنويّاً، وتتوزّع على ثلاث فئات:

– فئة A: للرصيد الذي يفوق مئة ألف دولار ولا يزيد على مليون دولار، وتكون مدّة استحقاقها 10 سنوات.

– فئة B: للرصيد الذي يراوح بين مليون دولار وخمسة ملايين دولار، وتكون مدّة استحقاقها 15 سنة.

– فئة C: للرصيد الذي يفوق خمسة ملايين دولار، ومدّة استحقاقها 20 سنة.

بحسب النصّ المتداوَل، يمكن تقصير آجال هذه الشهادات بمراسيم في مجلس الوزراء تبعاً لتطوّر الوضع الماليّ والاقتصاديّ. تكون هذه الشهادات قابلة للتداول في بورصة بيروت أو خارجها أو في السوق الثانويّة، أي أنّ بإمكان المودع أن يبيعها قبل حلول أجلها، لكن، بطبيعة الحال، سيكون الحسم السعريّ كبيراً جدّاً لشهادات بفائدة متدنّية وآجال بعيدة، وفي نظام ماليّ يحتاج إلى وقت طويل لاستعادة الثقة.

الجديد في هذا الصندوق أنّ شهاداته التي ستقدَّم للمودعين ستكون “معزّزة بإيرادات الأصول المخصّصة التي يملكها مصرف لبنان”، ومن ضمنها “إيرادات” الذهب (ما المقصود؟)، ومحفظة العقارات والحصص في الشركات مثل “الميدل إيست” و”كازينو لبنان” وغيرهما، وإيرادات ديون الدولة المستحقّة لمصرف لبنان، والأرصدة النقديّة والاحتياطيّات المتاحة. الأهمّ تخصيص ما لا يقلّ عن 75% من عائدات “تصفية” هذه الأصول إلى الصندوق.

—–

الفكرة الجوهريّة للقانون جيّدة، من حيث إنّها تستخدم جزءاً من الأصول الممتازة لدى مصرف لبنان لتنظيف ميزانيّته، وإخراجه من سلسلة التعثّر النظاميّ. وقد اقترح كاتب هذه السطور صندوقاً من هذا القبيل في مقال في “أساس ميديا” في آذار الماضي، لكن مع فارق أساسيّ أنّ هذا الصندوق لا يتطرّق فقط إلى مشكلة المطلوبات العالقة بين مصرف لبنان والمصارف فقط، بل يقدّم معالجة ثلاثيّة للمطلوبات بين مصرف لبنان والبنوك والمودعين، وهذه المقاربة لها إيجابيّاتها وإشكاليّاتها في آن معاً.

أهداف معقولة

في المجمل، يحقّق القانون، في مسوّدته الأولى، جملة أهدافٍ معقولة، من أهمّها:

1- يرسي مبدأ المسؤوليّة المشترَكة للدولة ومصرف لبنان والمصارف عن إعادة الودائع، وبالتالي تكون المساهمة ثلاثيّة في إعادتها، مع إلقاء العبء الأكبر في إدارة هذه المطلوبات وسدادها على مصرف لبنان.

الودائع

2- تؤكّد مسوّدة القانون ضرورة قيام المساهمين في المصارف بإعادة رسملة مصارفهم، على أن تُعتبر الأموال الجديدة التي يضخّونها ضمن الشريحة الأولى من رأس المال (CET1)، فيما يعتبر الجزء غير المتأثّر من رأس المال شريحةً ثانية. هذا يعني عمليّاً تصفير رؤوس أموال المصارف، وهو أمر لا بدّ منه لإرساء مبدأ تراتبيّة الخسائر. إذ لا يمكن أن يتحمّل المودع خسارة دولارٍ واحدٍ إذا كان ملّاك المصارف سيحتفظون برؤوس أموالهم.

3- يتمسّك القانون بمبدأ أن “لا يموت البنك ولا تفنى الودائع”، وهو مبدأ لا بديل عنه لعودة القطاع المصرفيّ إلى دوره الضروريّ في الوساطة الماليّة في الاقتصاد. كلّ الأفكار الأخرى لإعدام البنوك وإحلال بنوك جديدة ضررها أكبر من نفعها بأشواط.

لا بدّ أن يتشارك الجميع في خسائر الأزمة، من الدولة إلى مصرف لبنان والبنوك والمودعين. تحمّل المواطن والموظّف والعسكريّ قسطه بالفعل

إشكالات للنّقاش

لكنّ في المسوّدة جملة إشكالات تستحقّ النقاش:

1- على مستوى استرداد الودائع، ما تزال مسوّدة القانون تتعامل مع كبار المودعين وكأنّه من الحلال تحميلها الجزء الأكبر من أثقال الأزمة. الصيغة المطروحة لا تحقّق إعادة الودائع، كما هو الشعار المعلن، بل تقود إلى “هيركات” قاسٍ بأكثر من شكل:

نسبة الفائدة المعترَف بها (2%) أقلّ بكثير من معدّل التضخّم، ولا تكافئ مستوى المخاطرة. ولا تعترف مسوّدة القانون بالفوائد منذ توقّف البنوك عن السداد، وهذا بحدّ ذاته يعتبر حسماً فعليّاً، لأنّ معدّل التضخّم التراكميّ أكل فعليّاً من قيمته الحاليّة ما لا يقلّ عن 20%.

3 تجميد الأموال لما يراوح بين عشر سنوات و20 سنوات، مع فائدة منخفضة، سيُترجم إلى حسم في القيمة الحاضرة لتلك الأموال (PV). من يُرِد أن يبيع الشهادات فسيضطرّ إلى القبول بخسارة كبيرة تشبه خسائر بيع الشيكات، ولو بنسبٍ أقلّ.

4- لا يمكن اعتبار كلّ الفوائد التي حصل عليها المودع فوق حدّ الـ2% منذ عام 2015 “فوائد فاحشة”، لأنّ الأمر يقاس بمعدّل المخاطرة من جهة، وبالفرص البديلة من جهة أخرى. لذلك لا بدّ من مراجعة هذه النسبة، أقلّه لتتجاوز مستوى التضخّم، ولتحسين القيمة السوقيّة للشهادات الماليّة التي سيصدرها مصرف لبنان.

2- يقدّم القانون حلّاً معقولاً للأموال المهرّبة إلى الخارج، من خلال فرض ضريبة على تلك الأموال بنسبة 20%. لكن لا بدّ أن تكون نسبة الضريبة أكثر انسجاماً مع ما سيخسره المودع الذي بقيت أمواله حبيسة في المصارف. لا يعقل أن يخسر المودع الآخر 50% أو 70% من أمواله، ويظلّ عالقاً لربع قرن، فيما المودع المستغِلّ لنفوذه يسوّي أموره بدفع 20%، بعدما حقّق مثلها أو أكثر من العوائد التي حقّقها منذ أن هرّب أمواله.

يرسي مبدأ المسؤوليّة المشترَكة للدولة ومصرف لبنان والمصارف عن إعادة الودائع، وبالتالي تكون المساهمة ثلاثيّة في إعادتها

3- لم يتطرّق القانون، في مسوّدته الأولى، إلى الأرباح الفاحشة التي حقّقها من سدّدوا قروضهم بالليرة أو عبر تجارة الشيكات، مع علم الجميع أنّ تلك الأرباح تشكّل رقماً لا يستهان به في حساب الفجوة الماليّة. وبالتالي، يتخلّى القانون عن وظيفة أساسيّة للتشريع هي إصلاح الاختلال في الانتقال غير العادل للثروة من المودعين إلى المقترضين والتجّار.

نصوص ضبابيّة

4- في النصّ المتداوَل عبارات ضبابيّة عن الأصول التي سيعزَّز بها الصندوق. فما المقصود بإيرادات تلك الأصول؟ هل في النيّة القيام بعمليّات استثماريّة على الذهب تدرّ عوائد استثماريّة؟ هل في النيّة تصفية جزء منه؟ هل في النيّة خصخصة “الميدل إيست” وكازينو لبنان ومحفظة العقارات؟ كان بالإمكان اعتماد مقاربة أخرى لإدارة هذه الأصول الثمينة وتعظيم قيمتها عن طريق صندوق سياديّ يُدار وفق أفضل الممارسات العالميّة، بدلاً من إبقائها تحت الشخصيّة المعنويّة لمصرف لبنان.

5- كان بالإمكان، وفق مقاربة أخرى، أن يعالج مصرف لبنان مشكلته مع المصارف، مع إبقاء المطلوبات تجاه المودعين على ميزانيّات المصارف. بذلك تنكشف المصارف التي لديها مشاكل أخرى غير نظاميّة، ويوضع ملّاكها أمام الخيار بين زيادة رؤوس أموال مصارفهم أو الخروج من السوق، وعندها فقط تُحال ودائع مصارفهم إلى صندوق استرداد الودائع.

6- ليس من الواضح، وفق هذه الصيغة، ما الذي ستقدّمه المصارف من أصولها مقابل نقل الودائع من ميزانيّاتها إلى صندوق استرداد الودائع، وهل يكون النقل وفق معادلة عادلة بين البنوك؟

خرجت مسوّدة قانون الفجوة الماليّة بفلسفة جديدة تقوم على نقل الودائع القديمة من ميزانيّات المصارف إلى صندوق استثماريّ مشترك

7- لا يغطّي القانون بوضوحٍ كافٍ مسؤوليّة الدولة المشترَكة عن تكوّن الفجوة الماليّة، وعن المساهمة في ردمها. هنا لا بدّ من أن تقدّم الدولة التزاماً لاسترجاع الأرباح الفاحشة التي حقّقها التجّار والمستوردون من أموال الدعم، ومن سداد ضريبة القيمة المضافة على سعر الصرف القديم، فيما كانت منتجاتهم تُباع في السوق وفق سعر الصرف الجديد.

إقرأ أيضاً: هجومٌ منسّق على “جديّة” مصرف لبنان

التّشارك في الخسائر

أخيراً، لا بدّ أن يتشارك الجميع في خسائر الأزمة، من الدولة إلى مصرف لبنان والبنوك والمودعين. تحمّل المواطن والموظّف والعسكريّ قسطه بالفعل. ليس من المحرّمات أن تقول الدولة إنّ على المودع أن يتحمّل، لكنّ رفع شعار إعادة الودائع كاملة، على النحو المطروح، يبدو مفرغاً من الحقيقة، بل لا يعدو أن يكون “هيركات” بمكياجٍ مختلف. ليبدأ النقاش بمصارحة، على أساس مبدأي العدالة والشفافيّة، وبعدها يؤدّي كلٌّ قسطه.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@OAlladan

مواضيع ذات صلة

هجومٌ منسّق على “جديّة” مصرف لبنان

الإجراءات التي يفرضها مصرف لبنان للتضييق على التداول بالنقد الأجنبيّ لا تنطلق من اعتبارات سياسيّة، ولا هي خدمة لأطراف خارجيّة. إنّها تدابير يتّخذها المصرف انطلاقاً…

كارثة مصرفيّة واحدة في لبنان وسورية

لم يكن ينقص سورية في هذه الظروف الانتقاليّة الحرجة إلّا ظهور انكشافها الكبير على الأزمة المصرفيّة في لبنان. تبيّن أنّ أزمة النظام المصرفيّ اللبنانيّ التي…

تسلسل الخطوات لإنقاذ القطاع المالي اللبناني

لا تزال السياسة النقدية والمالية في لبنان رهينة مقاربةٍ تقوم على كسب الوقت وتجنّب مواجهة الحقيقة القاسية: لا تعافٍ اقتصادياً من دون إعادة هيكلة مصرفية…

صندوق النّقد يحسمها: لبنان مقصّر

بينما يشير المسؤولون اللبنانيون إلى قوانين جديدة ومسوّدات خطط، لكن صندوق النقد الدولي غير مقتنع. لا يقتصر الأمر على صدقيّة مساندة الصندوق في المستقبل، بل…