صدرت روايتان عن الخبز عن أعلى مسؤولَين في إيران الأسبوع الفائت. بدأت مع مستشار خامنئي علي ولايتي الذي قال إنّ “الحزب أهمّ من الخبز بالنسبة إلى لبنان”. استكملها معلّمه المرشد الأعلى بعد يومين بتحذير مواطنيه الإيرانيّين من “الإسراف في الخبز والماء والغاز”.
روايتان يجمع بينهما، ويفرّق بينهما: الخبز.
نعود دائماً إلى “هرم ماسلو” الشهير*، حيث حاجات البشر وفق الترتيب العلميّ تبدأ بالطعام، أي الخبز. تذهب باتّجاه الأمن والحماية والعمل والصحّة، ثمّ الانتماء والحبّ والعائلة والصداقة، والاحترام والمكانة والاعتراف والإنجاز، ثمّ الإبداع والتطوير، لتصل إلى مساعدة الآخرين روحيّاً وأخلاقيّاً ومادّيّاً.
هتافات الفقراء في شوارع بيروت، وفي كلّ شوارع مدن العالم، كما يذكرها من شاركوا في تظاهراتها، تبدأ دائماً بالخبز: “خبز وعلم وحرّيّة”. كما لو أنّ هذا الشعار هو تجسيد طبقيّ لهرم ماسلو، حيث الخبز يأتي أوّلاً ودائماً. من دون خبز في صباح الوطن، لن تذهب العقول إلى التعليم، ولن نعرف كيف نطالب بالحرّيّة.
نعود دائماً إلى “هرم ماسلو*” الشهير، حيث حاجات البشر وفق الترتيب العلميّ تبدأ بالطعام، أي الخبز
الحرّيّة أمام إسرائيل
لنقفز فوراً إلى صلب الموضوع، الحرّيّة:
- الحرّيّة أمام الغزو الإسرائيليّ المستمرّ لبلادنا.
- الحرّيّة أمام شروط بنيامين نتنياهو التي تزداد شراهةً يوماً بعد يوم.
- الحرّيّة أمام احتلال نقاطٍ خمسٍ، وتهديد باجتياح جنوب الليطاني كلّه وضرب مقرّات رسميّة ومطارنا الوحيد في بيروت، وتهجير مئات الآلاف…
- قبل كلّ هذا: الحرّيّة أمام من ادّعى أنّه سيحمينا من إسرائيل. فعرضَ علينا الحماية والأمن، مقابل تلك الحرّيّة.
كلّ هذا يقرّبنا من عبوديّة مقنّعة لإله عسكريّ لا يشبع. إلهٍ جديد من حديد ونار انتصر على إلهٍ قديم وأقرب، كان متغلغلاً في يوميّاتنا العاديّة. يعيّن من يشاء، ويقتل من يشاء، وينبذ من يشاء، ويرفع درجاتٍ من يشاء.
هتافات الفقراء في شوارع بيروت، وفي كلّ شوارع مدن العالم، كما يذكرها من شاركوا في تظاهراتها، تبدأ دائماً بالخبز: “خبز وعلم وحرّيّة”
فقدنا “الحرّيّة” حين فقدنا “العلم”
لا حرّيّة بلا “علم”. هرم ماسلو لا يكذب.
نحن في لبنان، وغير لبنان، وفي إيران وغير إيران، فقدنا الحرّيّة منذ زمنٍ طويل. منذ جاءنا رجالٌ بالبذلات العسكريّة، وقالوا لنا إنّهم سيهزمون أعداءنا، وإلى جانبهم رجال الغيب، الذين يتحدّثون مع السماء، ويحملون أسلحةً لا نراها. منعوا الأسئلة والأجوبة. من ارتاب أو سأل، رموه في سجون التخوين داخل قلاع عميقة من النفي الاجتماعيّ والسياسيّ.
استعاضوا عن العلم بالنسخ. قرّروا أن “يحاربوا العدوّ بسلاحِه”. أي أن يشتروا من العدوّ ما أنتجته علومه هو. حاولوا أن يهزموه بها. كأنّ Copy Paste قد تنفع لإخضاع حضارة أبحرت في العلم وصولاً إلى رؤية نشأة الكون، قبل 13 مليار سنة، في بثٍّ مباشر كما لو أنّه يحصل الآن.
المهمّة السّماويّة… والهزيمة الأرضيّة
بدلاً من بناء الجامعات وإعلاء شأن الأسئلة والفلسفة والعلوم الوضعيّة، راحوا يحفرون الأنفاق، التي تبيّن أنّها مُضاءة 24 ساعة، ومجهّزة بالمياه والهواء. في حين يعيش فوقها، في قرى الجنوب والبقاع، أهلٌ بلا كهرباء ولا مياه.
عشرات مليارات الدولارات صرفها أصحاب البذلات والغيب لبناء الأنفاق. في حين كان يكفي مليارات قليلة لنضع لبنان على سكّة الذكاء الاصطناعيّ، والإنتاج الصناعيّ والزراعيّ. لكنّهم كانوا في مهمّة سماويّة. وما أدرانا نحن، معشر الكتّاب والمثقّفين، بالسماء ورجالها.
أصلاً لا علم من دون حرّيّة. تتفتّح العلوم في الدول الحرّة فقط. كان للعرب والمسلمين حرّيّة ذات تاريخ، ازدهرت فيها علومهم وصدّرتهم على الشعوب الأخرى. ثمّ خسروا كلّ شيء حين أحرقوا الأسئلة والكتب… وما يزالون.
“الحزب أهمّ من الخبز”، أرسل القائد مستشاره ليقول للّبنانيّين. ردّاً على الحصار الماليّ، ومحاولة منع الأموال من الوصول إلى مقاتليه وممثّليه
نهاية المطاف… نهاية “الخبز”
هكذا تقهقرت هذه التجربة الحضاريّة. هزيمة 2024 لم تكن عسكريّة أو سياسيّة. كانت هزيمةً حضاريّة. الفجوة العلميّة بين الطرفين هي التي حسمت المعركة. دقّة الصواريخ. الهواتف. صور الأقمار الاصطناعيّة. الدرونات الموصولة بذكاء اصطناعيّ قادر على تحليل بيانات الصوت والصورة بسرعة هائلة.
بعدما ضحّينا بالحرّيّة، على مذبح البذلة العسكريّة وتحت أقدام رجال الغيب… ضحّينا بالعلم. أملاً في اختصار الزمن، و”نسخ” حضارة الخصم، بوهم الانتصار عليه بها. فعُدنا إلى قعر هرم ماسلو. إلى قعر شعارات الفقراء. عدنا إلى سؤال الخبز.
“لا تسرفوا في الخبز”. قال قائد التجربة الحضاريّة بأكملها. والخبز، كما تعلمون، هو أدنى درجات الغذاء. يسرف فيه الفقراء، ويغمّسونه بالحبوب، بالفول، بالحمّص. يأكلون به اللحم، إذا توفّر، ليشبعوا من فتاته.
“الحزب أهمّ من الخبز”، أرسل القائد مستشاره ليقول للّبنانيّين. ردّاً على الحصار الماليّ، ومحاولة منع الأموال من الوصول إلى مقاتليه وممثّليه.
خامنئي مهزوماً أمام هرم ماسلو
في أعلى هرم ماسلو ترفُ “مساعدة الآخرين”. لا يحرّر الإنسان جاره قبل أن يأكل خبزه، ويملك علمه، ويتمتّع بحرّيّته.
أمّا خامنئي، الذي يحدّث السماء وتحدّثه، يريد أن يقاتل في جهات الأرض الأربع، وهو لا يملك قوت يومه. لا يملك الخبز. ولا يملك العلم. يقبض على حرّيّة شعبه والشعوب المجاورة.
إقرأ أيضاً: محنةُ العهد وحِكمتُه: “وعي” وطنيّ وسطيّ
هذه التجربة المريضة اليوم، المُتهالِكة، التي تسقط يوماً بعد يوم، ستكون درساً تاريخيّاً كبيراً لشعوب المنطقة. بأن:
- لا حرّيّة من دون علم.
- لا علم من دون حرّيّة.
- لا خبز من دون علم.
- لا حرّيّة من دون خبز.
نحن في قعر الهرم الحضاريّ.
لقد أعادنا المرشد الأعلى إلى السؤال الأدنى: سؤال الخبز.
*هرم ماسلو: نظرية أطلقها أبراهام ماسلو (1908-1970)، عالم نفس أمريكي شهير. رتّب بموجبها الاحتياجات الإنسانية في تسلسل هرمي، مع الاحتياجات الفسيولوجية (البقاء) في الأسفل، والاحتياجات الأكثر إبداعًا وتوجهًا فكريًا لتحقيق الذات في الأعلى.

لمتابعة الكاتب على X:
