العراق: الدّولة العميقة “الفاسدة” تجدِّد شبابها

مدة القراءة 5 د

لو سُئلت عن الطريقة التي أراها مناسبة لاجتثاث الفساد المستشري في العراق من جذوره لاقترحت أن يُعيَّن مراقبٌ محايدٌ ونزيهٌ على كلّ واحد أو اثنين من موظّفي الدولة العراقيّة. إذا ما عرفنا أنّ دولة العراق الحاليّة تعاني من تضخّم الأرقام الحقيقيّة والوهميّة لأعداد موظّفيها فإنّ ذلك يعني أنّنا سنكون في حاجة إلى توظيف أكثر من ثلاثة ملايين شخص للقيام بتلك المهمّة!

 

إذاً تلك فكرة خرافيّة، وقد تقود إلى اتّساع دائرة الفساد إن نجح الفاسدون في شراء ذمم النزيهين ممَّن سيشعرون باليأس والإحباط بسبب اطّلاعهم على سعة خرائط الفساد وقوّة نفوذ القائمين على تشغيل ماكينته التي تعمل بطريقة احترافيّة وتجدِّد نفسها بمرور الوقت.

في المقابل لا يترك زعماء الأحزاب الحاكمة مناسبة تمرّ من غير الحديث عن رغبتهم في تقديم كلّ مَن تحوم حوله شبهات الفساد إلى المحاكمة لكن بشرط أن يتمكّنوا من السلطة المطلقة.

يقف نوري المالكي في مقدَّم الداعين إلى فتح ملفّات الفساد. ولمَن لا يعرفه فإنّ المالكي الذي حظي بمنصب رئيس الحكومة لولايتين (2006 ـ 2014) هو المسؤول عن إضفاء المسحة القانونيّة على الكثير من مظاهر الفساد، ومنها رواتب نازحي رفحاء وتعويضات السجناء السياسيّين وتقاعد القتلى الإيرانيّين في حرب الثماني سنوات ومنتسبي حزب الدعوة وأعضاء الحزب الشيوعيّ، إضافة إلى المشاريع الخدميّة الوهميّة التي أُعلن قيامها في زمانه وسُرقت من خلالها مليارات الدولارات من غير أن يظهر منها إلّا الحجر الأساس.

اختتم المالكي ولايته الثانية بسقوط الموصل تحت الاحتلال الداعشيّ بعدما اخترق مشروع فساده القوّات المسلّحة التي سلّمت أسلحتها الأميركيّة الحديثة إلى تنظيم داعش وهربت قبل أن تقع المعركة.

يقف نوري المالكي في مقدَّم الداعين إلى فتح ملفّات الفساد

سرديّات طائفيّة خدمت المحتلّ

لماذا لم يُحاكَم المالكي وقد أثبت تقرير اللجنة التي شكّلها مجلس النوّاب في ذلك الشأن مسؤوليّته عمّا جرى؟

قبل سقوط الموصل كان المالكي قد تمتّع بسلطة مطلقة يسّرت له التصرّف بمئات المليارات من غير أيّ سلطة رقابيّة. لا أعرف كيف اقتنعت الإدارة الأميركيّة بأنّها اهتدت إلى رجلها حين وضعته على رأس السلطة. فالرجل الذي تحوم حوله شبهات المشاركة في التخطيط لتفجير السفارة الأميركيّة في بيروت عام 1984 كان مهووساً بطائفيّته إلى درجة الاعتقاد أنّ الحرب الطائفيّة التي اشتعلت بين عامَي 2006 و2008 ما كان لها أن تقوم لو لم يكن المالكي رئيساً للحكومة.

يقول خليل زاده الذي كان سفير الولايات المتّحدة في العراق في مذكّراته: “نصحت المالكي بإعلان حظر التجوّل ما إن سمعت بتفجير الضريحين، لكنّه رفض”. لكنّ رواية السفير شيء وما كانت تفكّر فيه القيادة العسكريّة الأميركيّة شيء آخر.

العراق

كان الأميركيّون محقّين حين اعتبروا المالكي رجلهم في تلك المرحلة التي كانت قوّاتهم تُمنى فيها بخسائر بشريّة كبيرة نتيجة استمرار نشاط المقاومة. تغاضى الأميركيّون عن فساده الذي سبقوه إليه، وذلك بناء على نصيحة خبرائهم الذين وجدوا فيه الشخص المناسب الذي لن يتردّد لحظة واحدة في إشعال حرب أهليّة يتقابل فيها أتباع المذهبين الشيعيّ والسنّيّ كأعداء في صراع تاريخيّ.

في لحظة شعور الأميركيّين بالحاجة إليه سعى المالكي إلى تكريس وجوده نجماً مذهبيّاً خدَمته السرديّات التي عملت مراكز البحث التي أنشأتها سلطة الاحتلال على تكريسها. وهي سرديّات قدّمت العراق إلى إيران على طبق من ذهب. كان ذلك كلّ ما تمنّاه المالكي وفكّر فيه. لذلك حين هرب إلى إيران بعد انهيار قوّاته وقد كان قائداً عامّاً لها لم يكن في ذهنه سوى شيء واحد: ستسرع الولايات المتّحدة إلى إنقاذه. وهو ما حدث فعلاً.

قبل سقوط الموصل كان المالكي قد تمتّع بسلطة مطلقة يسّرت له التصرّف بمئات المليارات من غير أيّ سلطة رقابيّة

على رأس دولته العميقة

في كلّ مناسبة تُتاح فيها للعراقيّين فرصة التعبير عن شعورهم بالضيم وهم يلمسون بأيديهم انهيار القيم الأخلاقيّة في مجتمعهم، لا يجدون أمامهم رمزاً أعظم للفساد من نوري المالكي. قد يكون الرجل ظالماً ومظلوماً في الوقت نفسه. لكنّ المالكي لم يدافع عن نفسه ولم يدحض مرّة واحدة الاتّهامات التي تَنسب إليه جرائم فساد خطِرة.

لا يعني ذلك أنّ الرجل مطمئنّ إلى سلامة موقفه أمام القانون بقدر ما يعني أنّه على ثقة بأنّه يمثّل الخيط القلق الذي تنزلق عليه التسوية الأميركيّة – الإيرانيّة في العراق. تُرك المالكي زمناً طويلاً لكي يؤسّس دولته العميقة. لذلك حين غادر منصبه الرسميّ مهزوماً لم يحتَج إلّا إلى وقت قصير ليعود عرّاباً للعمليّة السياسيّة، وهو ما يعني عودته لإدارة ماكينة الفساد التي تمّ تجسيدها من خلال تحالف إدارة الدولة الذي يضع رئاسة الحكومة في جيبه.

إقرأ أيضاً: العراق “دولة أزمة” تسير على الألغام

في ظلّ تلك المعطيات سيكون واضحاً أنّ ما يجري تداوله عن محاولات لتصحيح العمليّة السياسيّة ما هو إلّا جزء من حاجة الدولة العميقة التي أقامها المالكي إلى تجديد شبابها. وذلك يعني أنّ الفساد سيظلّ هو الأصل، ولن يكون الإصلاح سوى وسيلة لإنقاذها.

 

*كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

هل يستميل لبنان فرنسا وأميركا في التّفاوض؟

تتوالى الاستحقاقات على لبنان وما سينجم عنها في الأسابيع المقبلة. بين ثناياها وتواريخها  يختبر اللبنانيّون مراهنتَين على: – أن تصرّ واشنطن على تل أبيب كي…

ترامب “يستدعي” نتنياهو لفرض المرحلة الثّانية

لا يبدو أنّ المرحلة الثانية من خطّة دونالد ترامب ستنطلق قبل زيارة بنيامين نتنياهو لواشنطن، المتوقّعة في نهاية الشهر الحالي. من السذاجة الاعتقاد أنّ التأخير…

أجواء برّي: تعديل اتّفاق الهدنة… وقف النّار أوّلاً

أفسح تعيين مفاوض مدنيّ هو السفير السابق سيمون كرم رئيساً للوفد العسكريّ إلى اجتماعات لجنة “الميكانيزم” في المجال أمام البحث في حلول سياسيّة ممّا كان…

بهشلي – بارزاني: خطّان متوازيان… يلتقيان؟

شهدت العلاقات بين أنقرة وإربيل خلال الأعوام الأخيرة تقدّماً ملموساً تجاوز الكثير من العقبات، مدفوعةً بتقاطع المصالح وبناء قنوات ثقة متدرّجة. لكنّ  “حادثة شرناق” وضعت…