بعد عامٍ على اتّفاق وقف الأعمالِ العدائيّة، لا يزال شبحُ الحرب جاثماً فوق لبنان أكثر من أيّ وقتٍ مضى، نتيجة ضبابيّة الأفق التفاوضيّ وقصور الحلول العسكريّة عن ترجمة الخسائرِ والمكتسبات في السياسة.
صحيحٌ أنّ الزلزال الذي ضرب الإقليم بعد هجماتِ السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل قد غيّر وجهَ الشرق الأوسط، وقد نال لبنان من هذا التغيير حصّةً وافيةً قصمت ظهر “الحزب”، لكنّها لم تقضِ عليه، وقد تمكّن في زمنٍ قياسيّ من التقاط أنفاسه سياسيّاً، وإن جلس كسيحاً في كرسيّه يهدّد كثيراً ولا يفعل شيئاً يُذكَر.
أثبت نتنياهو في العامين الماضيَين أن لا خطوطَ حُمراً أمام توحّش آلته العسكريّة والاستخباريّة، وأثبت ترامب بنسخته الثانية جدّيةً لم تُمَيّز ولايته الأولى في التعاطي مع ملفّات المنطقة، تُرجمت بمتابعةِ إدارته الدقيقة لملفّات غزّة وسوريا وإيران ولبنان التي وصلت حدَّ الوصاية المباشرة.
بعد عامٍ على اتّفاق وقف الأعمالِ العدائيّة، لا يزال شبحُ الحرب جاثماً فوق لبنان أكثر من أيّ وقتٍ مضى، نتيجة ضبابيّة الأفق التفاوضيّ وقصور الحلول العسكريّة عن ترجمة الخسائرِ والمكتسبات في السياسة
اللّعب على التّناقضات
اعتاد الساسةُ المخضرمون في لبنان ومهندسو الدولة العميقة التعاطيَ مع الوصايتين السوريّة والإيرانيّة، لكنّ العقل الترامبيّ، المقبل من عالم الصفقات والشركات، يتعاطى بطريقةٍ مختلفةٍ لا تتناسب مع عقليّة business as usual التي اعتادها وتُعرَف لبنانيّاً بمصطلح “تقطيع الوقت”. لا قفّازات عند ترامب، بل مطالب واضحة. لا حوافز ولا جوائز ترضية للخاسرين، بل KPI يُحاسَب على أساسها الصديق قبل العدوّ. وقد اعتمدت هذه الرؤية في لبنان على ثلاثة مسارات:
- عسكريّ: تُبقي بموجبه إسرائيل حربَ الاستنزاف من جانب واحد على نار هادئة، فيما يقوم الجيش اللبنانيّ بسحب السلاح والسيطرة على المخازن والمنشآت التابعة لـ”الحزب” وتدميرها، ويُمسك بمفاصل الحدود مع سوريا.
- سياسيّ: تتبنّى بموجبه الحكومة ورقة توم بارّاك وتنخرط في مفاوضات مباشرة للسلام مع إسرائيل وترسيم الحدود مع سوريا.
- اقتصاديّ: تُنجز الحكومة الإصلاحات الاقتصاديّة وتُجفّف اقتصاد الكاش ومصادر التمويل المشبوهة، وتُقفل طرق التهريب والمعابر غير الشرعيّة، قبل الحديث في المساعدات أو إعادة الإعمار.
تعاطى السياسيّون اللبنانيّون مع الخطّة، كعادتهم، بشيء من التلكّؤ، عزاه البعضُ إلى ضعفٍ في التقدير لجدّيّة الولايات المتّحدة وإسرائيل في التنفيذ، أو إلى عدم إدراكهم لراديكاليّة التغيير في الإقليم وضيق الهوامش التي تتطلّب تحمّلاً للمسؤوليّة التاريخيّة الملقاة على عاتقهم، وما يعنيه ذلك من اتّخاذ قرارات غير شعبويّة.
أمّا الدوائر السياسيّة الغربيّة فرأت في التلكّؤ تواطؤاً مع “الحزب”، الذي نجح برأيها في اللعب على تناقضات السياسة وزواريبها وصفقاتها لإجهاض الخطّة الأميركيّة، وفي جرّ لبنان الرسميّ معه إلى مسلسل سوء التقدير والتخبّط الذي رافق “الحزب” منذ الثامن من أكتوبر 2023 ولا يزال يطبع مقاربته للتطوّرات.
الحقيقة أنّ الخطّة الأميركيّة نفسها تشوبها عيوبٌ بنيويّة تحدّ من قدرة الدولة اللبنانيّة والولايات المتّحدة على تنفيذها. فمنهج مكافحة الإرهاب والجماعات المسلّحة، المتوافَق عليه من أغلب الباحثين في أوروبا بشكل خاصّ، يفيد بوجود شبه إجماع على أنّ استئصال جماعاتٍ مسلّحة شديدة الالتصاق ببيئتها الاجتماعيّة لا يمكن أن ينجح بالنهج العسكريّ فقط. فمن دون تحييد هذه البيئة عن الإجراءات العقابيّة التي تطال المسلّحين والمنظّرين والمموّلين، ستتحوّل أيّ استراتيجية إلى ما يشبه التمييز العنصريّ. لذا يجب أن تترافق مع حوافز تفتح طريق الخروج من القوقعة الاجتماعيّة للجماعة إلى حضن الدولة وتقدِّم المغريات لإلقاء السلاح، ويجب أن تترافق مع معالجة سياسيّة للمظالم التي لحقت بالجماعة وأدّت إلى ظهور التنظيم المسلّح.
أثبت نتنياهو في العامين الماضيَين أن لا خطوطَ حُمراً أمام توحّش آلته العسكريّة والاستخباريّة، وأثبت ترامب بنسخته الثانية جدّيةً لم تُمَيّز ولايته الأولى في التعاطي مع ملفّات المنطقة
في العراق، أدّى حلّ الجيش واجتثاث البعث بعد الغزو الأميركيّ إلى تحويل آلاف الشباب السنّة إلى عاطلين عن العمل أو مطارَدين، وهو ما ساهم في تحويل الحواضن السنّيّة إلى بيئة خصبة للسلفيّة الجهاديّة. وفي أفغانستان، فرّ الأميركيّون بعد عشرين عاماً من الاحتلال ولم يفهموا حتّى الآن كيف عادت طالبان إلى الحكم، على الرغم من كلّ ما يراه فيها العالم من تخلّف ورجعيّة، إلّا أنّها تمثّل شريحة كبيرة من الأفغان، شئنا ذلك أم أبينا.
“الحزب” الهجين
في لبنان، تعتمد الخطّة الأميركيّة على العضلات الإسرائيليّة في إبقاء جذوة الحرب مشتعلة، وترفض الحديث عن انسحاب الاحتلال قبل إنجاز سحب السلاح. وتنطوي الخطّة على قصور في فهم طبيعة “الحزب” وارتباطه ببيئته، وهو ما يؤدّي إلى أخطاء منهجيّة يمكن تداركها، وتفرض مُهَلاً غير واقعيّة تضع ضغطاً هائلاً على المؤسّسة العسكريّة، وتتعامى عن واقع الاهتراء الذي لحق بالدولة لعقود، فبات صعباً إنجاز التحوّل السريع، حتّى لو توافرت الأموال والإرادة السياسيّة.
“الحزب” منظّمة هجينة متعدّدة الأوجه وليس ميليشيا وحسب. توصيفه بـ”الدويلة داخل الدولة” ربّما يصوِّر للبعض أنّه جسم منعزل يسهل استئصاله بقَطع التمويل وتقويض القدرات العسكريّة، بينما التوصيف الأقرب إلى الواقع هو أنّ “الحزب” تنظيم أمنيّ وعسكريّ وحزب سياسيّ ومؤسّسات اقتصاديّة واجتماعيّة وتربويّة، يتمتّع بدعم شريحة وازنة من المجتمع اللبنانيّ. وقد نسج متاهات محليّة متداخلة من مصالح سياسيّة وأمنيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وماليّة تخدم المجهود الحربيّ وتتحصّن به، ليشكّل رأس الحربة في استراتيجية الدفاع المتقدّم الإيرانيّة، التي ترفده بالمال والسلاح عبر شبكات الحرس الثوريّ الشديدة التعقيد.
لقد تداخلت متاهات “الحزب” بسراديب الدولة العميقة، فأصبح قادراً على تعطيل أو إبطاء مفاعيل أيّ اندفاعة ضدّه من الأسفل، علاوة على قدرته على الإمساك بالفيتو الشيعيّ في المجلس النيابيّ والحكومة، حتّى لو أطنب المسؤولون في الحديث عن قرارٍ لا رجعة فيه بحصريّة السلاح بيد الدولة واحتكارها قرار السلم والحرب.
أين الدولة الفاضلة؟
لم تنشأ الدويلة في خاصرة دولة فاضلة، ولم يحتكر “الحزب” تبييض الأموال واستخدام شبكات التهريب، ولم ينشئ وحده مؤسّسات خدميّة ورعويّة وإعلاميّة، ولم يكن وحده مستفيداً من الفساد وراعياً له. كانت المنظومة كلّها متواطئة في علاقات تبادليّة تتوتّر حيناً وتهدأ أحياناً تبعاً للمصالح الضيّقة، وقد سكتت المنظومة عقوداً عن السلاح وأدواره الإقليميّة ما دامت جيوبها ممتلئة، فيما يُطلب منها اليوم تفكيك مشروع هي جزء لا يتجزّأ منه.
تقف الخطّة الأميركيّة عاجزة عن الإمساك بخيوط الدولة العميقة، فتهدّد بنسف الهيكل على من فيه، وهو ما ينطوي على مجازفة كبرى. فالأجدى هو تشديد الرقابة والتركيز على أداء الطبقات المتوسّطة في الإدارات، حيث تتسرّب التعليمات أدراج الرياح.
الخطّة الأميركيّة نفسها تشوبها عيوبٌ بنيويّة تحدّ من قدرة الدولة اللبنانيّة والولايات المتّحدة على تنفيذها
ترى بيئة “الحزب” أنّها تُدفَع للاستسلام في نفقٍ مظلمٍ إن سُلّم السلاح، وتدرك أنّ التمسّك به انتحار. كلاهما خطر وجوديّ من منظورها. أغدق “الحزب” على بيئته العطايا في زمن الانهيار. فعندما ابتلعت المصارف ودائع الناس، وجد الشيعة وغير الشيعة في “القرض الحسن” ملاذاً آمناً يستودعون فيه ذهب نسائهم فيحصلون على قروضٍ ميسّرة تقيهم العوز. وجدوا في مدارسه بديلاً للمدرسة الرسميّة المهترئة، ووجدوا في مؤسّساته الصحّية سنداً لمرضاهم وقت انهار الضمان الاجتماعيّ، ووفّرت الإعانات الشهريّة والبطاقات التعاونيّة استمراريّة الخبز على موائدهم.
لا يصدّق معظمهم ما وثّقته المنظّمات الدوليّة عن تورّطه في تهريب المخدّرات وصناعة الكبتاغون وتصفية المعارضين وتهريب السلاح وتبييض الأموال. وجه “الحزب” الذي يرونه هو مجموعة من الشبّان المقاتلين الذين دفعوا دماءهم فداءً للوطن. “الحزب” بالنسبة لهم هو ابن عمّ وخال وصديق يستحيل أن يتورّط في موبقات كهذه. هو صورة السيّد حسن نصرالله التي إن خُدشت تنهار معها منظومة قيميّة كاملة صنعت هويّة وكرامة.
عمليّة محفوفة بالمخاطر
تقف سياسة العصا بلا جزرة التي تتّبعها الإدارة الأميركيّة عاجزة عن الردّ على سرديّة الخطر الوجوديّ التي عكف “الحزب” على التهويل بها، ووسّع من خلالها تدريجاً مروحة تأييده التي كانت قد تقلّصت إلى الحدّ الأدنى غداة الحرب. يُفقد صلف المتحدّثين الأميركيّين الخطابَ الوطنيَّ مشروعيّته، فيسمح لـ”الحزب” بتصويره على أنّه إملاءات.
لا تبدو النتيجة مفاجئة. فلو قرأ الأميركيّون صفحة واحدة من تاريخهم في أفغانستان والعراق لأدركوا أنّ المقاربة الأحاديّة لمكافحة الإرهاب والجماعات المسلّحة ترتدّ سلباً في السياسة إذا لم تقترن بمعالجة الجذور التاريخيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، التي سمحت لهذه الجماعات بالنشوء والتمدّد في حواضن اجتماعيّة تشترك في التجربة والمصير، لتصنع هويّة عقائديّة شديدة الولاء لا تضع الربح والخسارة في ميزانٍ مادّيّ.
على الشيعة أن يدركوا أنّ شهر العسل في الدويلة انتهى، وأنّ تأييدهم لـ”الحزب” سيرتّب عليهم أكلافاً باهظة لا يمكنهم أن ينكروا أنّها آتية
تجربة الخروج من الدويلة إلى الدولة عمليّة محفوفة بالمخاطر لمن يغامر بخوضها إن لم تُوفَّر له البدائل الحقيقيّة. فالدويلة بالنسبة لهم عالمٌ حقيقيّ يوفّر لهم بالدرجة الأولى الاحتضان في جماعة تشترك في التجربة والمصير والثقافة وفي الهويّة. والدولة عالمٌ افتراضيّ يملؤه الغرباء المختلفون. ليست مسألة الهويّة رفاهيةً مؤجّلة تخصَّص للجلسات النخبويّة، بل هي اختبارٌ يوميّ لمدى نجاح مشروع الدولة في إحياء المشترَكات العابرة للوطن، التي بإمكانها أن تخفّض حدّة الانتماء الطائفيّ أو الحزبيّ من خلال تحقيق الأمان والعدالة والرفاه.
لذا تفكيك هذه المنظومة المعقّدة محكوم بالفشل إن بقي يعمل فقط من الأعلى إلى الأسفل بالمراسيم والضغط والعقوبات، من دون العمل على إعادة ملء الدولة للفراغ الذي تمدّد فيه “الحزب” مدّة أربعين عاماً.
لو اتّعظ الأميركيّون من حروبهم في الإقليم لأدركوا أنّ المُهل غير الواقعيّة لتسليم السلاح، والحملة الممنهجة على المؤسّسة العسكريّة وقيادتها وأدائها، ودفعها لمواجهة شعبها، تُعرّض السلم الأهليّ الهشّ لمخاطر الانفجار. وتذكر مراجع مكافحة الإرهاب في العراق أنّ الجندي السنّيّ في الجيش كان يتحجّج بالمواصلات والعذر الطبّيّ وغيرهما من الحجج كي لا يشارك في معركة يعتبرها ضدّ بيئته السنّيّة (وليس داعش)، وكثيراً من الضبّاط الأفغان رفضوا دخول مدن تتحصّن فيها طالبان بالقوّة قبل التوافق معها.
إقرأ أيضاً: علي حسن خليل في طهران: الشّيعة يطلبون الخلاص؟
لا يتأتّى احتمال الانفجار الداخليّ فقط من سيناريو مصادرة السلاح بالقوّة كما يتوهّم البعض، بل أيضاً من احتمال فقدان المؤسّسة العسكرية القدرة على الحفاظ على السلم الأهليّ إن خسرت التمويل والتسليح والقدرة على التجنيد والتدريب والحفاظ على سلاسل القيادة والسيطرة وتحمُّل كلفة الانتشار في مساحات جغرافيّة واسعة تحت ضغط ميدانيّ وسياسيّ هائل.
كان العام الفائت مخاضاً عسيراً يجب أن لا يتحوّل قدراً. أمام اللبنانيّين خياراتٌ صعبة. على الشيعة أن يدركوا أنّ شهر العسل في الدويلة انتهى، وأنّ تأييدهم لـ”الحزب” سيرتّب عليهم أكلافاً باهظة لا يمكنهم أن ينكروا أنّها آتية. على “الحزب” أن يدرك أنّ إيران لن يكون بمقدورها إنقاذه مهما أرسلت من مال وسلاح وقادة، والفارق التكنولوجيّ الشاسع حوَّل الحرب غير المتكافئة إلى هراء. على الدولة اللبنانيّة أن تستفيق من سباتها وتتوقّف عن المهاترات، وتتصرّف بموجب التفويض الممنوح لها من الشعب كمحتكرٍ عادلٍ للعنف، ومصدرٍ للأمن والأمان والرفاه. وعلى الأميركيّين أن يراجعوا القصور في مقاربتهم ويتعاونوا مع الدول العربيّة، وعلى رأسها المملكة العربيّة السعوديّة التي باتت تدرك أخطار الضغط الأقصى على التركيبة اللبنانيّة الهشّة وربّما تمتلك بين يديها مفتاح الحلّ في طهران.
* ملاك جعفر عبّاس هي كاتبة صحافيّة وإعلاميّة لبنانيّة، حاورت شخصيّات عربيّة وعالميّة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصّصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلّحة في جامعة كينغز كولدج لندن.
يمكن التواصل معها عبر منصّة “LinkedIn” على
