ياسين جابر لـ”أساس”: الدعم خطيئة اقتصادية.. ومصرف لبنان موّل الفساد

مدة القراءة 8 د


الحوار مع الوزير السابق النائب ياسين جابر ليس بالحوار العادي. هو رجلٌ قريب من الجميع وقادر بسعة اطلاعه على وضع النقاط على حروف الأزمة الاقتصادية والنقدية التي نواجهها.

في حوار “أساس” مع الوزير جابر وضع قضايا الاقتصاد على الطاولة موزعاً المسؤوليات دون تحيّز. فبرأيه أنّ حصر الانهيار المالي بجهة واحدة هو خطأ فادح، بعدما تخلّت السلطة السياسية المتعاقبة عن دورها وواجباتها، وهذا خطأ فادح…

 

في قضية التدقيق الجنائي أكثر من وجهة نظر قانونية: يعتبر البعض أنّ بوسع وزارة المال رفع السرية المصرفية عن حساباتها حتى يكون مصرف لبنان ملزماً بتسليم كلّ ما تطلبه شركة Alvarez&Marsal. فيما يعتبر البعض الآخر أنّ حلّ هذه المسألة يتطلّب تعديلاً بسيطاً. أما وجهة النظر الثالثة فتقول إن حلّ هذا السجال يحتاج إلى تشريع جديد، حدّثنا عن مقاربتك لهذه المسألة. 

لا أملك في الواقع معلومات عميقة لمعرفة حقيقة ما يدور في الكواليس. لكنّ لبنان بحاجة إلى تدقيق جنائي في وزاراته كافة. برأيي، هناك أكثر من خطأ في مقاربة موضوع التدقيق الجنائي. فقد عمد البعض إلى تصويب الأمر فأصبح استهدافاً سياسياً لجهة واحدة هي مصرف لبنان. في حين أنّ المؤسسات التي تتطلّب تحقيقاً جنائياً هي كثيرة، ومؤسسة كهرباء لبنان علي سبيل الذكر لا الحصر، مثال على ذلك. ففي المؤسسات التابعة للدولة، لا توجد معضلة سرية مصرفية. هذا الخطأ ذو الوجهين أضعف القضية، فمن أراد إخفاء معلومات تذرّع بالسرية المصرفية، ومن أراد توجيه سهامه استغلّ ذلك.

أما الخطأ الثاني، فكان إبرام العقد مع الشركة الأجنبية مع العلم المسبق أنّ هناك قوانين تقتضي تعديلاً.

المشكلة هي في مقاربة الأمور عبر التسييس بعيداً من المنطق والقانون. لكن إذا قاربنا الأمور بشكل عادل، فسنجد أنّ مصرف لبنان قد أخطأ. إلا أنّه ليس مؤسسة مستقلة، بل هناك مفوّض حكومة، ومجلس مركزي كان يجب عليهما القيام بدورهما طوال تلك السنوات. الجميع لم يعترضوا على قرارات البنك المركزي، بل صادقوا عليها. كما أنّ وزير المال هو الوصي، ومع ذلك لم نشهد أيّ اعتراض.

في المحصّلة، لبنان بحاجة إلى التدقيق في حساباته بشكل علمي. فبعد تعديل ما يلزم من قوانين، يمكن للقضاء طلب ما يلزمه من كلّ جهة معنيّة.

في جميع الأحوال، يمكن لمجلس الوزراء اتخاذ قرار رفع السرية المصرفية عن حسابات وزارة المال لتُحلّ هذه المشكلة من أساسها.

لقد قيل الكثير عن التدقيق الجنائي إلا أنّ الخطوات التي تضمن تنفيذه بقيت كلاماً في الهواء.

 

– هل يكفي إذاً أن يطلب القضاء داتا مصرف لبنان حتى تُحلّ كلّ هذه الجدلية؟

تنصّ المادة 151 من قانون النقد والتسليف على: “أن يكتم كلّ شخص ينتمي أو كان انتمى إلى المصرف المركزي، بأية صفة كانت، السرّ المنشأ بقانون 3 أيلول سنة 1956. ويشمل هذا الموجب جميع المعلومات وجميع الوقائع التي تتعلّق ليس فقط بزبائن المصرف المركزي والمصارف والمؤسسات المالية، وإنما أيضاً بجميع المؤسسات المذكورة نفسها، والتي يكون اطلع عليها بانتمائه إلى المصرف المركزي”.

يمكن تعديل المادة بإضافة استثناء يلزم أيّ موظف من المركزي بالإدلاء بجميع المعلومات أمام القضاء. لكن و حتى اللحظة، لم يطلب القضاء أيّ مستندات أو أرقام البنك المركزي.

 

– حسم حاكم البنك المركزي رياض سلامة الجدلية المرافقة للتدقيق الجنائي معتبرا أنّ في لبنان شركتين منذ 25 عاماً هما: Deloitte و E&Y وقد قامتا بعملهما، ما يعني أنّ لبنان ليس بحاجة إلى تحقيق جنائي. لكن هل تعتقد أنّ الشركتين أدّتا دورهما بالفعل؟ وأين التقارير التي أُصدرت؟ وهل مَن راجع هذه التقارير ودقّق في أرقامها؟

يختلف التدقيق الجنائي عن التدقيق الحسابي. تقول الشركتان إنهما قامتا بدورهما، وكانتا تصدران تقاريرهما بانتظام. لكن لا يمكن التوغّل في تفاصيل هذا الملف لأنّ المعطيات الحقيقية ليست بمتناول كثيرين. أكتفي بالقول هنا إنّ “طبخة” اختيار Alvarez&Marsal، وهي ليست خبيرة في التدقيق الجنائي، لم تكن مقنعة.

 

– في ظلّ التلويح الأميركي بموجة عقوبات ثانية قريبة على سياسيين لبنانيين، هل من خطوات يمكن لمجلس النواب اتخاذها؟

كان من الأفضل للبنان تحاشي الخلافات الجوهرية مع دولة كبرى كالولايات المتحدة. فالعقوبات مضرّة بصاحبها سياسياً. كمجلس نيابي بدأنا منذ سنوات سياسة انفتاح وتحاور مع الكونغرس الأميركي. كلّفنا رئيس المجلس فور بدء الحديث عن عقوبات بالذهاب إلى واشنطن للتحاور. في فترة معيّنة، أثمر الحوار نسبياً، وخفّت الموجة على الرغم من صدور القانون.

أكتفي بالقول هنا إنّ “طبخة” اختيار Alvarez&Marsal، وهي ليست خبيرة في التدقيق الجنائي، لم تكن مقنعة

إلا أنّ الأمر تطوّر بشكل دراماتيكي، فسياسة الرئيس دونالد ترمب عاصفة، ليس فقط بالنسبة إلى لبنان بل أيضاً بالنسبة لأوروبا وروسيا والصين. وقد حصل لبنان على حصته من هذه السياسة التصادمية. المفروض أن تهدأ الأوضاع مع إدارة بايدن، وأن تعود الأمور إلى مجاريها الطبيعية.

ليس الشعب راضياً عن الأداء السياسي. لذا وفي الانتظار، على من يريد تحاشي العقوبات الأميركية إيقاف عمليات فساده. أنا شخصياً، أخجل أن تتهم جهة خارجية سياسيين لبنانيين بالفساد خصوصاً وأنّ المجلس أقرّ سلة قوانين تصب في خانة لجم الفساد.

لتفادي التدخّلات الأجنبية، على لبنان أن يصبح دولة قانون ومؤسسات.

 

– في حال حُرّر سعر الصرف رسمياً، وبصفتك مشرّعاً، هل من مشروع قانون يراعي عقود التسليفات ويحمي حقوق المستهلك؟

أُقرّ منذ أشهر قانون تعليق المهل، وتجميد كلّ الملاحقات الناجمة عن أيّ تعثر في سداد القروض حتّى شباط 2021. كما أنّ تعميم المركزي نصّ على أنّ القروض الشخصية كافة، غير التجارية، باقية على أساس الـ1515 ليرة. المواطنون الذين يواجهون رفض مصرف ما أن يقبض الدفعات الشهرية وفقاً لما ورد في التعميم، يلجأون إلى آلية العرض الفعلي والإيداع واستتباعها بدعوى أمام القضاء إن استوجب الأمر. حتّى اللحظة، ليس هناك من داعٍ لتشريع جديد.  أما مستقبلاً، ومهما حصل في سعر الصرف، فسيؤخذ هذا الموضوع في عين الاعتبار.

 

– كيف ترى مستقبل القطاع المصرفي؟

أُعطيت المصارف إنذاراً لزيادة رأسمالها، وإعادة تكوين احتياطها بالعملة الأجنبية. تنتهي المهلة في شباط المقبل. كلّ من لن يلتزم يكون مصيره حكماً بين يدي الهيئة المصرفية العليا. و لا شكّ أنّ حجم القطاع المصرفي سيتقلّص بعد هذه الأزمة.

 

– أين أصبح قانون الكابيتال كونترول؟ أولم يُشبع مناقشات؟

أصبح “الكابيتال كونترول” كالطعام البائت. وقد بات مطلباً للمصارف لحماية نفسها من دعاوى المودعين. من جهتنا، أبلغنا المصارف أننا لن نعطي الناس وعوداً كاذبة. في بلد يحترم نفسه، لكان “الكابيتال كونترول” أُقرّ في تشرين الثاني من العام الماضي. وقد نصحنا إدارات المصارف بعدم فتح فروعها من دون قانون ينظّم المرحلة المقبلة إلا أنها لم تذعن لنصائحنا.

أُعطيت المصارف إنذاراً لزيادة رأسمالها، وإعادة تكوين احتياطها بالعملة الأجنبية. تنتهي المهلة في شباط المقبل. كلّ من لن يلتزم يكون مصيره حكماً بين يدي الهيئة المصرفية العليا. و لا شكّ أنّ حجم القطاع المصرفي سيتقلّص بعد هذه الأزمة

وإذا كان “الكابيتال كونترول” شرطاً أساسياً لصندوق النقد الدولي، فهو يفرض استثناءات غير خاضعة لعملية تقييد السحوبات، إلا أنّ المصارف اعترفت بعدم امتلاكها الأموال. لذا، لن يكون هناك أيّ قانون يحمي المصارف في القريب العاجل إن لم تؤمّن هذه الأخيرة دولارات طازجة بما يضمن عمليات تحويل التحاويل التي تغطيها الاستثناءات في القانون.

 

– يُتّهم مصرف لبنان بنسف قانون النقد والتسليف والتعدّي على صلاحيات السلطة التشريعية، وإصدار تعاميم وقرارات على أنقاض أخرى… مَن يحاسب مصرف لبنان؟

إنّ السلطة السياسية تخلّت ومنذ زمن، وبإرادتها، عن دورها، وتركت الأمر لمصرف لبنان بشرطين:

1- الحفاظ على استقرار سعر الليرة على الـ1500.

2- تأمين الدولارات لسدّ عجز الموازنة. وهي الدولارات عينها لتمويل المشاريع التي استفاد منها الجميع، وتمويل الفساد تالياً.

طالما أمّن البنك المركزي هذين المطلبين لم يقم أحد بمساءلته. لقد أثبتت التجارب أنّ الدولة المفلسة اتخذت قرارات غير مدروسة. وانا أقصد خيار زيادة رواتب وأجور القطاع العام بأرقام فلكية ونسب خيالية ما كلّف الخزينة العامة ألفين و200 مليار ليرة سنوياً، بالإضافة إلى خيار دعم السلع الغذائية والمحروقات. اليوم بتنا في مرحلة ليس واضحاً فيها مَن يجب أن يحاسب مَن. فقد ذهبنا إلى الانهيار متعمّدين. وعلى الرغم من أنني حذّرت من تداعيات سلسلة الرتب والرواتب اقتصادياً ومالياً إلا أنني لم ألقَ آذاناً صاغية.

إقرأ أيضاً: العيّاش لـ”أساس”: “دمج المصارف غير متاح وعودة الرسملة هي المفتاح”

كلّ ذلك من دون أن نتّعظ أو نتعلّم من هذه الاقترافات. بل على العكس، لا نزال في حالة إنكار فيما نستمرّ باعتماد سياسات دمّرت اقتصادنا وماليّتنا العامة كالدعم على سبيل المثال، وهي أقدم خطيئة اقتصادية في العالم. فمستوردو السلع المدعومة يجنون أرباحاً خيالية على حساب الفقراء.

خلاصة القول: كلّ القرارات التي أوصلت إلى الانهيار المالي كانت سياسية بدءا من تمويل العجوزات مروراً بعدم ترشيد الدعم، وصولاً إلى تمويل الكهرباء. مصرف لبنان كان المنفّذ للسياسات الحكومية. هو شريك بالمسؤولية إلا أنّه ليس الوحيد.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…