منذ الجلسة الشهيرة لرئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل مع الأمين العامّ للحزب وظهور بداية الخلاف حول ترشيح سليمان فرنجية، بدأ التباعد الفعليّ بين الحليفين، وكانت مآخذ أحدهما على الآخر كثيرة، وحصلت جردة عتاب متبادلة تحمل في طيّاتها بذور خلاف أخرجه ملفّ الرئاسة إلى العلن بعدما كانت جمراً تحت رماد علاقة يزيد عمرها على سبعة عشر عاماً.
يختلف واقع الحزب الراهن عمّا كان عليه يوم عقد تحالف مار مخايل الشهير مع التيار الوطني الحرّ ممثّلاً برئيسه العماد ميشال عون في العام 2006.
يومها جلس الأمين العامّ وإلى جانبه الجنرال. وهما رمزان كبيران، واحد شيعي والثاني ماروني، تحالفا وتعاونا وانفتح جمهور كلّ منهما على الآخر. سنوات من التحالف العميق بحلوه الكثير ومرّه المحدود، انتهت إلى حملات تخوين متبادلة بقوّة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وأحياناً بدفع من قيادات الطرفين.
كلّ من يعرف الحزب عن قرب يلمس تعاطيه بفائض قوّة مع التيار، وخلف الكواليس يبدو الحزب حريصاً على إظهار نفسه في موقع المكتفي ذاتياً بحيث لم يعد بحاجة إلى حليف مسيحي، لدرجة أنّ بعض الأصوات داخل الحزب لا تتردّد في القول إنّ قرار التيار، سواء ابتعد عن الحزب أو فكّ التحالف، لن يترك الأثر البالغ على حزب بلغت قوّة نفوذه الإقليم ودخل في المعادلة الدولية فلم يعد يحتاج إلى حليف يسانده في الداخل. أقلّه هذا هو الانطباع السائد في تعاطي الحزب مع حليفه المسيحي. حتى لتظنّ أنّ الحزب بلغ في ثنائيّته مع حركة أمل تكاملاً يجعله يكتفي به ويستغني عن علاقته بحليفه المسيحي. فضلاً عن ربط النزاع مع السُنّة الذي كرّسه الرئيس سعد الحريري.
في الأساس لم يعُد سرّاً أنّ أبرز أسباب تباعد الحليفين وخلافهما هو تسليم الحزب بأولويّة علاقته مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي وتقديمه الاعتبارات الداخلية لطائفته على ما عداها.
ترفض مصادر مطّلعة على علاقة الحزب مع التيار مقولة أنّ الحزب استغنى عن تحالفه مع التيار الوطني. في سرّها ما تزال تراهن على عامل الوقت الكفيل بإزالة الشوائب في العلاقة بين الطرفين
أمّا العلاقة مع التيار وباسيل على وجه التحديد فهي مدار نقاش دائم في اجتماع شورى الحزب. حتى في الخلاف الراهن ثمّة من يعتبر أنّ خطأ في التعاطي أودى بالعلاقة معه، فيما رأي آخر يمنّن على باسيل بمكاسب ما كان ليحظى بها لولا تحالفه مع الحزب. لكن يمكن القول إنّ الغلبة للرأي الأوّل مشفوعة بحرص الأمين العامّ على العلاقة مع باسيل على الرغم من عتبه الكبير عليه، ولا سيما على خلفيّة مواقفه الأخيرة وصولاً إلى تأييده مرشّح المعارضة جهاد أزعور.
آلام الحزب من جبران
أكثر ما يؤلم الحزب حالياً وما يردّده عن أسباب البرودة مع حليفه المسيحي تلك الحملة التي يشنّها باسيل على مرشّح الثنائي سليمان فرنجية، التي في رأيه لا ترتبط بشخص فرنجية بقدر ما ترتبط بكونه مرشّح الحزب. في تبريره يقول الحزب: “نحن لم نرشّح فرنجية بل دعمنا ترشيحه. ويندرج في أصل العتب على الحليف أنّ الحزب استراتيجيّاً يريد مرشّحه لأنّه لا يطعن، فيما باسيل يتحالف تكتيكيّاً مع خصوم الحزب من أجل الإطاحة بترشيح فرنجية”.
فهل يكون فرنجية سبباً لفكّ تحالف جمعهما على امتداد سبعة عشر عاماً حتى بات الحزب بغنى عن التلاقي مع مكوّن مسيحي؟
وهل يمكن أن يستبدل الحزب تحالفه مع فرنجيّة بعلاقته مع التيار؟
في الوقائع الراهنة يمكن الاستنتاج أنّ الحزب غير راضٍ عن أداء باسيل في ما يتعلّق بملفّ الرئاسة، وأنّ تحالف مار مخايل لم يعد يُصرَف في العلاقة بينهما، إضافة إلى أنّ التيار ابتعد في خياراته الرئاسية لكنّه لم يبتعد عن الثوابت وبقي محافظاً على خطّ الرجعة مع الحليف، وتحديداً في الموقف من “المقاومة” وسلاحها.
في جلساتهم الخاصّة وخلف الكواليس يبقى تحالف الحزب – التيار الشغل الشاغل للدبلوماسيين الأجانب والعرب ممّن لم يستوعبوا بعد أنّ الطرفين على خلاف قويّ يفرّق بينهما، وأنّ خلافهما ليس من باب توزيع الأدوار.
فماذا تقول وقائع العلاقة؟ وهل استقرّ الخلاف بينهما أم هو آخذ في التمدّد؟
ترفض مصادر مطّلعة على علاقة الحزب مع التيار مقولة أنّ الحزب استغنى عن تحالفه مع التيار الوطني. في سرّها ما تزال تراهن على عامل الوقت الكفيل بإزالة الشوائب في العلاقة بين الطرفين.
على الرغم من الخلاف على الرئاسة يعترف الحزب أنّه في مأزق مسيحياً، ولولا ذلك لكان فرنجية في قصر بعبدا. لا مهرب للحزب من تحالف مسيحي يحسّن شروط مرشّحه، لكنّ انفتاحه على القوّات شبه مستحيل، لذا فإنّ العلاقة مع التيار تبقى الممرّ الإلزامي شبه الوحيد، إنّما هي متوقّفة على عامل الوقت بانتظار توافر الظروف لعودة الحديث المشترك، فعساه يأتي يومٌ يتمكّن الحزب من إقناع باسيل بتعديل وجهة نظره.
تقول مصادر مطّلعة على أجواء الحزب إنّ العلاقة قائمة تمهيداً لقراءة واقعية لمرحلة ما بعد انتخاب الرئيس. على الرغم من الخلاف والعتب المتبادل، لم تنقطع الاتصالات بين الحليفين
الحزب: للبحث صلة.. بعد انتخاب الرئيس
تقول مصادر مطّلعة على أجواء الحزب إنّ العلاقة قائمة تمهيداً لقراءة واقعية لمرحلة ما بعد انتخاب الرئيس. على الرغم من الخلاف والعتب المتبادل، لم تنقطع الاتصالات بين الحليفين وتراوحت بين تلك المتّصلة بواجبات اجتماعية وأخرى تمّت من خلال وساطات دخلت على الخطّ يقودها أصدقاء مشتركون. وفي المعلومات أنّ الوزير السابق وئام وهّاب ينشط على خطّ ميرنا الشالوحي – حارة حريك في محاولة لتذليل العقبات وإزالة سوء التفاهم بين باسيل والحزب.
يؤكّد الحزب بحزم أنّه ليس بوارد الانفصال عن التيار الوطني الحر، لكن يعترف بوجود خلل أساسي وعميق في العلاقة معه يتّصل بمقاربة ملفّ رئاسة الجمهورية وترشيح فرنجية. وثمّة قناعة لدى الحزب أنّ الأمور ستغدو مختلفة بعد انتخابات الرئاسة. وبحسب مصادره القريبة لن يحدث تصادمٌ على ملفّات أخرى، وليس الطرفان بوارد الخروج من مضامين التحالف ولو أنّ هذا الاتفاق بالشكل الجامد انتهى فيما سيبقى بمضامينه قائماً بعد حلّ موضوع الرئاسة.
وفق قاموس الحزب لا يعني ترشيحه فرنجية استبدال حليف بآخر ولا ترجيح كفّة واحد على حساب الثاني، فالحزب ليس بوارد استبدال التيار الوطني ورئيسه بفرنجية، ولديه تحالف وثيق مع المسيحيين يعتمد على جناحين أحدهما يمثّله التيار والآخر يمثّله فرنجية. أصل خلافه مع باسيل أنّ الحزب بات في موقع يصعب عليه أن يتقبّل تقييده بشروط مسبقة للتفاهم، وهو ما فعله باسيل ساعة اشترط سحب فرنجية تمهيداً للتفاوض، وهذا غير وارد لديه.
إقرأ أيضاً: الحزب: لا تكرار لتجربة العسكر في السلطة
يبدو الرهان على عامل الوقت والوساطات في محلّه، إذ تؤكّد مصادر عليمة في التيار الوطني الحر أنّ خيط التواصل مع الحزب يتعزّز تدريجاً، وأنّها تراقب سلوك الحزب تجاه ما يحاول القيام به ثنائي الرئيسين، نجيب ميقاتي ونبيه برّي، في مجلس الوزراء، لجهة إضعاف الموقع المسيحي في السلطة التنفيذية. وترى المصادر نفسها أنّ الحزب لن يسير بلعبة التسلّط ولن يقبل بأن تعيّن هذه الحكومة حاكماً لمصرف لبنان لأنّها مستقيلة وموقع رئيس الجمهورية الماروني شاغر.
وتعتبر مصادر التيار أنّ الحزب يدرك في العمق مصالحه، ولن يتخلّى عن معادلةٍ منحَته المناعة والاستقرار في الداخل. لذا لا بدّ له أن يبتكر المخارج لأزمة ترشيح سليمان فرنجية بحيث يلتقي مع التيار عند منتصف الطريق.
فيصير السؤال الواجب طرحه: هل كان خلاف جبران باسيل مع الحزب مرتبطاً بترشيح فرنجية حصراً، أو بمجموعة عوامل لا تبدأ في قطر ولا تنتهي في واشنطن، وبينهما الرأي العام المسيحي و”الهيلا هو” وكلّ ما “خسره” التيار بسبب حلفه مع الحزب، بشهادة جبران نفسه واستعاد منه الكثير بعد إعلان خلافه مع الحزب؟