حين تشكّلت حكومة إسرائيل الحالية التي تُعتبر الأكثر تطرّفاً في تاريخ الدولة العبرية، ساد اعتقاد أنّ فرص إحياء عملية السلام مع إسرائيل أصبحت شبه معدومة والمضيّ بتعزيز اتفاقيات التطبيع التي تمّ التوصّل إليها مع عدد من دول الخليج قد وصل إلى حائط مسدود، ومع ذلك يعتقد البعض في كلّ من واشنطن وتل أبيب والرياض، كلٌّ لأسبابه، أنّ الظرف سانح اليوم لتحقيق خرق كبير على صعيد السلام بين السعودية وإسرائيل هو الأهمّ منذ اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل.
كانت واشنطن دوماً تستكشف احتمالات استعداد الرياض للتطبيع مع إسرائيل وكانت تتلقّى جواباً بأنّ الوقت لم يسنح بعد على الرغم من دعم الرياض لاتفاقيات أبراهام التي وُقّعت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب. لكنّ البيت الأبيض تلقّى أخيراً ردّاً من القيادة السعودية جاء فيه أنّها مستعدّة لبدء المشاورات مع إسرائيل في سبيل التوصّل إلى اتفاقية سلام، وعندئذٍ سارع البيت الأبيض إلى إرسال كبار مستشاريه وعلى رأسهم مستشار الأمن القومي جايك ساليفان إلى الرياض وتل أبيب للبدء بجهد دبلوماسي بعيداً عن الأضواء، لكن مع تسريبات مدروسة في الإعلام الأميركي، وتحديداً عن الشروط والمطالب السعودية.
كانت الاتفاقات السابقة بين إسرائيل والدول العربية التي خاضت حروباً مع إسرائيل مبنيّةً على مبدأ الأرض مقابل السلام، على عكس اتفاقيات أبراهام التي كانت اتفاقيات تطبيع تركّز على أهمية قيام شرق أوسط جديد مبنيّ على مصالح الدول ومواجهة التهديد الإيراني، وبالطبع كان هناك دائماً جانب لإرضاء المفاوض العربي يتعلّق بحقوق الفلسطينيين وضرورة التفاوض بين إسرائيل والفلسطينيين من أجل تحقيق السلام الشامل.
تاريخياً كان الجانب الإسرائيلي يقبل على مضض بمبدأ الأرض مقابل السلام، ويفضّل معادلة الأمن مقابل السلام، وأخيراً سعى إلى الترويج لمبدأ السلام مقابل السلام. كانت إسرائيل في كلّ المفاوضات السابقة تركّز على الجانب الأمني الذي يحكم كلّ التزامات إسرائيل، سواء بالتعهّد بالانسحاب من الأراضي المحتلّة أو ضرورة أن تكون هناك ترتيبات أمنيّة تأخذ بعين الاعتبار الهواجس الأمنيّة الإسرائيلية. ولكن في المفاوضات مع غير الدول المجاورة فإنّ الجانب التطبيعيّ والمصالح كانا غالبين على غيرهما من الأمور، وهذا ما يفسّر إنشاء مكاتب تبادل تجاري تمهيداً لإبرام معاهدات سلام وتبادل سفراء.
الدول العربية التي فاوضت أو وقّعت معاهدات سلام مع إسرائيل كانت تسعى إلى التوفيق بين المصالح الوطنية والوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية
الدول العربية التي فاوضت أو وقّعت معاهدات سلام مع إسرائيل كانت تسعى إلى التوفيق بين المصالح الوطنية والوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية. ولم يعد خافياً على أحد القلق الخليجي من التهديدات الإيرانية، وهذا ما تستغلّه إسرائيل تحت عنوان التهديد المشترك، من أجل حثّ بعض الدول العربية على المضيّ بالتطبيع وعدم انتظار حلّ للقضية الفلسطينية.
اتّفاق قبل نهاية العام؟
إذا صحّت التوقّعات والتقارير عن حصول تقدّم في المحادثات التي تقودها الولايات المتحدة فإنّ ذلك يأتي مناقضاً للأجواء السياسية السائدة في إسرائيل والولايات المتحدة. فالمعطيات تشير إلى عدم وجود إعجاب وودٍّ مفقودٍ بين قيادات الدول. الرئيس الأميركي بايدن ليس على علاقة جيّدة مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو، والعلاقة مع القيادة السعودية هي الأكثر فتوراً بين المملكة السعودية ورئيس أميركي، ومع ذلك المعلومات تشير إلى تحقيق اختراق سيُعلَن قُبيل آخر العام. فما هي اعتبارات الدول الثلاث؟
رئيس حكومة إسرائيل بحاجة ماسّة إلى تحقيق إنجاز بهذا الحجم عسى أن يرأب ذلك الصدع في “الجبهة الداخلية” ويخفّف من حدّة الانقسام في المجتمع الإسرائيلي نتيجة التعديلات القضائية التي تنوي حكومته المتطرّفة تشريعها. وقد يمثّل التوصّل إلى اتفاقية سلام مع السعودية أهمّ إنجاز تاريخي له، في وقت يواجه فيه تهم فساد.
الرئيس الأميركي بايدن المعروف بخبرته في السياسة الخارجية والذي يخوض انتخابات التمديد لولاية ثانية، لم يحقّق أيّ إنجاز في الشرق الأوسط، وخصوصاً في النزاع العربي الإسرائيلي، باستثناء اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل الذي لا يُعتبر إنجازاً كبيراً مقارنة بما قام به الرئيس السابق ترامب، خصمه المحتمل في الانتخابات المقبلة. بايدن لا يستطيع أن يبرّر عدم انتهاز فرصة تحقيق سلام بين السعودية وإسرائيل، ومن المؤكّد أنّ ترامب سيستعمل هذا الأمر ضدّه في المناظرة الرئاسية التلفزيونية. ومع ذلك يخفّف البيت الأبيض، الذي يُعتقد أنّه من يسرّب أجواء المفاوضات ليُظهر أنّ الإدارة الأميركية تبذل جهداً دبلوماسياً مكثّفاً، من حدّة التوقّعات ورفع سقف الآمال حتى لا يتحمّل البيت الأبيض تبعات أيّ فشل في التوصّل إلى اتفاق.
حكومة وحدة وطنيّة اسرائيليّة؟
أمّا المملكة العربية السعودية التي تواجه تحدّيات عالمية وإقليمية، فهي في أفضل موقف تفاوضي يخوّلها أن ترفع سقف مطالبها والتشدّد في طلب الضمانات.
لقد تبيّن لإسرائيل والولايات المتحدة أنّه على الرغم من أهميّة اتفاقيات أبراهام، فإنّ غياب المملكة عن المشاركة في هذه الاتفاقيات يجعلها غير مكتملة وغير قادرة على نقل المنطقة إلى حقبة جديدة. ففي الشأن الفلسطيني، تسعى المملكة، التي اقترحت إقرار المبادرة العربية في قمّة بيروت، حتماً إلى انتزاع تعهّدات من إسرائيل بوقف تمدّد الاستيطان وإحياء المفاوضات مع الفلسطينيين على مبدأ حلّ الدولتين. ومن شأن ذلك أن يطيح بحكومة نتانياهو الحالية والذهاب إلى حكومة ائتلاف وطني مع المعارضة، وهذا من المؤكّد أنّه سيلقى ترحيباً من قبل البيت الأبيض.
الحرب الروسيّة على أوكرانيا والمواجهة التجارية المحتدمة مع الصين أعطتا المملكة خيارات استراتيجية وبديلة عن الولايات المتحدة شكّلت عنصراً ضاغطاً على واشنطن لإعادة استرضاء واستمالة الرياض بعد فترة من التباعد والنفور اللذين تصاعدا مع وصول بايدن إلى البيت الأبيض.
هذه شروط المملكة
كانت واشنطن دوماً تقدّم حزمة من الحوافز والمساعدات للدول والشركات لقاء عقد الاتفاقات. فإسرائيل تحصل في المقابل على مساعدات اقتصادية إضافية وأسلحة متطوّرة، فيما تحصل الدول العربية على مساعدات اقتصادية وبرامج تسلّح لتعزيز أمنها. في المشاورات السعودية الأميركية الإسرائيلية، المكافأة الإسرائيلية هي الاتفاقية في حدّ ذاتها. ولكن هذه المرّة الدولة العربية المعنيّة هي التي تتطلّب ضمانات وتضع شروطاً عُرف منها: تعهّدات أمنيّة أميركية لحماية أمن المملكة ترقى إلى مستوى تحالف استراتيجي، أسلحة أميركية متطوّرة، إضافة إلى تطوير مفاعلات نووية سعودية لأغراض سلمية من قبل الولايات المتحدة. ومن الطبيعي أنّه إذا ما تمّ التوصّل إلى اتفاق فسيؤدّي ذلك إلى إعادة الحرارة إلى العلاقات بين واشنطن والرياض. لكنّ المطالب السعودية لا يمكن تلبيتها بسهولة للأسباب التالية:
يجب الحصول على موافقة الكونغرس الأميركي وستكون هناك شروط قاسية قد لا تقبل بها الرياض. وقد يتطلّب الالتزام الأمني بحماية المملكة وجوداً عسكرياً أميركياً مكلفاً في المنطقة وإمكانية المشاركة في عمليات عسكرية مستقبلاً إذا ما حصل اعتداء إيراني على السعودية، فيما لا توجد رغبة أميركية هذه الأيام بإرسال قوات إلى مناطق نزاع.
المطالب السعودية في حال قبلت بها واشنطن ووافق عليها الكونغرس، فستحوِّل حتماً المملكة من دولة فاعلة اقتصادياً ومؤثّرة في سياسات النفط والطاقة في العالم إلى دولة محورية قويّة عسكرياً في المنطقة تشكّل توازناً مع إيران وتركيا.
إقرأ أيضاً: السّعوديّة: المبادرة العربيّة مقابل التطبيع
تشكّل معاهدات التطبيع مع إسرائيل مناسبة من قبل معسكر الممانعة الذي تقوده إيران، التي قد تعمد إلى ضرب الاستقرار وإثارة أزمات عن طريق أذرعها المنتشرة. وفي حال تمّت ترجمة التفاؤل الحذر الذي ساد في الأسابيع القليلة الماضية عن قرب التوصّل إلى نوع من التفاهمات بين السعودية وإسرائيل، فإنّ التقارب الذي حصل مع إيران واستيعاب نظام بشار الأسد من قبل الرياض سيكونان موضع امتحان صعب، فإمّا أن تكون الرياض قد نجحت في احتواء إيران وسوريا وأدواتهما استباقياً، وإمّا أن تذهب المنطقة إلى تفجيرات متنقّلة كتلك التي شهدناها في السنوات الأخيرة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mouafac@