تبدو النخب السنية مطمئنة إلى المسار العام للأحداث رغم هذا الحجم الهائل من المخاطر التي تحدق بنا وبلبنان الكيان والنسيج والهوية والتنوّع، مستندةً إلى ما تعتبره ثوابت أو حقائق في مقاربتها للصراع الدائر في المنطقة، أبرزها أنّ السنة هم الأغلبية في هذا المحيط العربي، وأنّ البلد شهد محاولات كثيرة سابقة للاستفراد بالهيمنة والسيطرة والتحكم الآحادي من هذه الطائفة أو ذاك الحزب، لكنّ تلك المحاولات باءت بالفشل. هي نظرية تقول إنّ لبنان لا يُحكم من قوّة واحدة. وتستدلّ من تجربتي حزب القوات اللبنانية وأحزاب الجبهة الوطنية، وما انتهت إليه الحرب باتفاق الطائف بعد سنوات الحرب المرعبة.
تستند النخب السنية أيضاً إلى أنّ التركيبة اللبنانية الحسّاسة والدقيقة تمثّل حصانة في وجه أي قوة تريد الاستبداد بالقرار الوطني وتعمل على إلغاء التنوع الديني وتحاصر الحريات التي هي عمود لبنان الفقري، وأنّ الشعب اللبناني سيتمكن من كسر ضغوط هذه القوة في النهاية.
من الواضح أن نُخـَبَنا تستند إلى ما تحمله من تجارب، وأنّها وقفت في متابعتها للمتغيرات عند لحظة 14 آذار وما تركته من تأثير وطني جامع، ولم تعد منذ ذلك الحين تنظر تحت أقدامها ولا حولها، بحيث يبدو أنّ كثيراً من المتصدّين منها للتحديات الكبيرة الداهمة في لبنان، لم يلاحظوا حجم التغييرات التي حصلت خلال المواجهة الطويلة مع المشروع الإيراني، وهي مواجهة مختلفة عن كلّ ما سبق أن شهده لبنان والمنطقة العربية منذ عقود طويلة. أو أنّهم لاحظوا لكنّهم يفضلون ترك الأمور إلى المشهد الذي يفضّلون الحديث عنه، وهو الحتمية التاريخية بسقوط تجارب الهيمنة الآحادية.
لكنّ مشروع ولاية الفقيه لا يخوض حرباً تقليدية يمكن بعدها ترميم البنية الوطنية واستعادة العافية في النسيج الاجتماعي. بل إنّه يعمل على إحداث تغييرات عميقة في كلّ دولة يتمكن من اختراقها، بحيث يستحيل بعدها إصلاح ما يقوم به من تخريب، تماماً كما هو حال النموذج الإسرائيلي، المبنيّ على قاعدة التغيير السكاني وتهجير أهالي المناطق المستهدفة وبناء المستوطنات وإحلال العناصر البشرية التابعة له حيثما حلّ. إضافة إلى قلب المفاهيم والقيم الاجتماعية والإنسانية، مثل الحريات والعلاقات بين أتباع الأديان وطبيعة النظام الاقتصادي ونمط الحياة السائد.
تستند النخب السنية أيضاً إلى أنّ التركيبة اللبنانية الحسّاسة والدقيقة تمثّل حصانة في وجه أي قوة تريد الاستبداد بالقرار الوطني وتعمل على إلغاء التنوع الديني وتحاصر الحريات التي هي عمود لبنان الفقري، وأنّ الشعب اللبناني سيتمكن من كسر ضغوط هذه القوة في النهاية
ما شهده العراق ثم سوريا واليمن، استند إلى منظومة عقائدية أعادت استحضار الصراع الشيعي السنّي منذ مئات السنين. وهي نماذج حيّة لما سيكون عليه حال تلك البلدان المنكوبة بالتدخل الإيراني. وما يجري على مرمى حجر في دمشق من تغيير لمعالم هذه المدينة ولسائر الحواضر السورية لَهُوَ مسألة تستحقّ المتابعة لتقييم ما إذا كنّا نستطيع الاطمئنان إلى أنّ السنة هم أهل الأغلبية في المنطقة أم لا.
لم تستطع فكرة “الأغلبية” أن تحمي سنّة سوريا من أن يهجـِّر الإيرانيون نصفهم خارج البلاد وأغلبهم داخلها. والتقارير الواردة من دمشق تكشف بوضوح حجم التجريف الجاري لهوية المدينة قبل أن يكون لبيوتها وبساتينها، وكيف تتحوّل أحياؤها العربية العريقة إلى أحياء فارسية بعد طرد أهلها منها.
في العراق، تمكن الإيرانيون تحت مسمّى مكافحة الإرهاب، من تدمير أغلب المدن السنية. وحتى الآن لا يسمحون بإعادة إعمار الموصل وغيرها من معاقل السنة الذين جرى تفريقهم بين عرب وأكراد وتمزيقهم بين كتل متصارعة على وهم المشاركة في العملية السياسية.
في اليمن، يلغي الحوثيون تعليم اللغة والتاريخ العربيين ويُحِلّون في جامعة صنعاء مناهج تعليم اللغة الفارسية. وهم يتجذرون في الاستيلاء على مفاصل الدولة وتصفية كلّ النخب المعارضة لمشروعهم، من دون أن يردعهم رادع، رغم تدخل التحالف العربي في الحرب اليمينة.
أسوقُ باختصار هذه الحقائق لأعود إلى واقعنا اللبناني، بعد أن لمستُ هذا السكون المخيف المسيطر على الواقع السنّي، وكيف أنّنا لم نعد نأبه بأيّ خطر يأتينا ولو كان على أبوابنا. وكأنّ على رؤوسنا الطير، فنعجز عن المبادرة ونغرق في التنظير لما هو آتٍ، من دون الأخذ بعين الاعتبار أنّ الوقائع تسبقنا، وعندما نستفيق لن نجد ما نقف عليه.
فهل يدرك من يحتلّون مراكز التمثيل السنّي في الدولة، والنخب المفكرة، السياسية والدينية والاجتماعية والإعلامية، حجم ما جرى ويجري من تحوّلات تضرب عمق النسيج الوطني وتخلق وقائع غيّرت فعلياً، ولا تزال، تغيّر وجه لبنان الذي بات في القبضة الإيرانية بعد سنوات من القضم والتدرّج في الاختراق؟
ما يواجهه السنّة في لبنان ليس استحقاقاً انتخابياً أو محطةً سياسية عابرة، بل إنّ المطروح اليوم هو مصيرهم ووجودهم ومستقبلهم، وهذا التحدي يشمل طبعاً بقية اللبنانيين الذين ما زالوا مؤمنين بإمكانية العيش معاً كمواطنين في دولة حرّة مستقلة يحكمها القانون وتسودها العدالة والحرية والمساواة.
لم تستطع فكرة “الأغلبية” أن تحمي سنّة سوريا من أن يهجـِّر الإيرانيون نصفهم خارج البلاد وأغلبهم داخلها. والتقارير الواردة من دمشق تكشف بوضوح حجم التجريف الجاري لهوية المدينة قبل أن يكون لبيوتها وبساتينها، وكيف تتحوّل أحياؤها العربية العريقة إلى أحياء فارسية بعد طرد أهلها منها
خلال الحرب الأهلية الغابرة، حصل تهجير في عدد من المناطق اللبنانية، لكن بعد انتهاء الحرب صالح اللبنانيون أنفسهم، لأنّ الدولة تركت شأن المصالحة الوطنية على غاربه، ممّا أثبت أنّ الشعب تجاوز السياسيين في كثير من المواقف المفصلية، وعاد مواطنون كثر إلى منازلهم ومناطقهم، ولم يجرؤ أحد على النطق بأنّه يسعى إلى تغيير التركيبة السكانية. لكن هل لاحظ أحدٌ أنّ قاعدة العودة شملت بيروت والجبل والشمال والجنوب والبقاع، لكنّها لم تشمل أبداً مناطق سيطرة “حزب الله”؟
حتّى أنّ الرئيس ميشال عون وبقية المسيحيين من أبناء حارة حريك يقترعون في صندوقها الانتخابي من دون أن يكون لهم مكان فيها. ولم يستطع أيّ مسيحي استرداد شبر واحد مما خسره نتيجة التهجير في الحرب وما تلاها من استيلاء على الأملاك الخاصة والعامة.
ظهرت هذه الحقيقة بعد انجلاء عدوان تموز عام 2006 عندما طلب الرئيس فؤاد السنيورة الوثائق التي تثبت ملكية من يشغلون عقارات الضاحية، فكانت الحملة الشرسة عليه، لأنّه كشف حجم الاعتداء الواسع على أملاك الدولة والمواطنين.
إقرأ أيضاً: السُنّة والاستقلال: التوفيق المُكلِف بين لبنان والعروبة
القاعدة نفسها تنطبق على السنّة أيضاً، فالكثيرون منهم خسروا ممتلكاتهم وأوقافهم إلى الأبد، حتى أنّ مقبرة “روضة الشهيدين” التي يستخدمها “حزب الله” لدفن قتلاه قائمة على الوقف السنّي.
فهل يحتاج “كبار السنة” إلى تذكيرهم باستيلاء “حزب الله” على قسم من أوقاف السنّة في الجية وكيف خاض المفتي الشيخ محمد علي الجوزو تلك المواجهة منفرداً، بعد أن أغمض الجميع عيونهم عما يجري تجنّباً لمواجهة الحقيقة؟
وماذا عن تجربة “سرايا المقاومة” وعجز “القيادة السنية” عن وقف نخرها العمق السنّي وتحوّلها إلى نقاط تماس في المدن والبلدات ذات الحضور السني الوازن؟ وهل يلزمنا تدبيج المزيد من المقالات عن الكتل الاستيطانية التي زرعها الحزب في صيدا والناعمة وخلدة وما يجريه من اختراقات للمناطق، خصوصاً في طرابلس والضنية، حيث نشهد موجة جديدة من شراء العقارات الكبرى، وما يجري تأصيله في المنية من مجموعات مسلّحة، وما يجري تحضيره للشمال أمنياً واقتصادياً وسياسيا؟