الحقيقة الكاشفة في علاقة إدارة بايدن بحكومة نتانياهو “أنّها تستخدم أكثر درجات الإقناع المرن، وتحاول بكلّ قوّة تجنّب فعل أو قول أيّ شيء يمكن أن تعتبره إسرائيل أو “إيباك” نوعاً من أنواع الضغط السياسي”.
تؤكّد المعلومات أنّ زيارة جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي الذي أُرسل على عجل من قبل بايدن لتجنّب أيّ خلاف شخصي أو سياسي بين بايدن ونتانياهو، انتهت إلى رضوخ واشنطن للرؤية الإسرائيلية في شكل وأسلوب إدارة تل أبيب للمعركة في غزة، والقبول بالجدول الزمني الذي حدّدته رئاسة الأركان الإسرائيلية لإنهاء العمليات.
عُلم أيضاً أنّ أيّ تصوّر سياسي لمشروع “اليوم التالي” لسقوط حماس في غزة “غامض وغير متّفق عليه”، وأنّ سوليفان سمع عدّة لاءات قاطعة في تل أبيب:
1- لا إيقاف فوريّاً لإطلاق النار الآن.
2- لا تعهّد صريحاً بعدم المساس بالمدنيين في شمال أو جنوب غزة.
3- لا رغبة ولا نيّة لدى إدارة نتانياهو لبدء أيّ حوار سرّي أو علنيّ مع السلطة الفلسطينية بزعامة الرئيس محمود عباس، وهذا تفسيره استمرار الجيش الإسرائيلي بالقيام بعمليات نوعية في مدن الضفة الغربية مع استمرار تعهّد الجيش والأمن بالدعم الكامل “لحقّ المستوطنين في الدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم”.
4- عدم رغبة حكومة نتانياهو الآن وتجنّبها الكامل الالتزام بأيّ تصوّر سياسي محدّد لإيجاد مسار تفاوضي يؤدّي بأيّ شكل إلى إعطاء أيّ سلطة مستقلّة للفلسطينيين لإدارة شؤونهم في غزة أو الضفة.
أمّا عبارة “حلّ الدولتين” فهي تُعتبر من العبارات الممنوع تداولها مع أيّ ركن من أركان الائتلاف الحاكم الآن في إسرائيل.
الحقيقة الكاشفة في علاقة إدارة بايدن بحكومة نتانياهو أنّها تستخدم أكثر درجات الإقناع المرن، وتحاول بكلّ قوّة تجنّب فعل أو قول أيّ شيء يمكن أن تعتبره إسرائيل أو “إيباك” نوعاً من أنواع الضغط السياسي
لماذا جاء سوليفان؟
ما هي أفكار جيك سوليفان التي حملها في حقيبته؟ لماذا جاء من الأساس؟
يأتي العقل السياسي لسوليفان من مدرسة جامعة ييل الشهيرة متأثّراً بفكر تيار الوسط فى الحزب الديمقراطي.
يمتلك الرجل منذ دراسته الحقوق رؤية سياسية قانونية أهّلته في فنّ التفاوض الصعب في قضايا شائكة تتطلّب “صبراً استراتيجياً”.
ظهر ذلك منذ أن عمل الرجل مستشاراً في إدارة بايدن، وعضواً في مراحل التفاوض الأوّلية للاتفاق النووي الأوّل مع إيران في عهد إدارة أوباما.
حصل الرجل على ثقة أوباما حتى إنّه شغل منصب مساعد الرئيس ومستشار الأمن القومي لنائب الرئيس جو بايدن في ذلك الوقت، وشغل قبل ذلك منصب مدير تخطيط السياسات بوزارة الخارجية، ويشغل الرجل منصبه منذ اليوم الأوّل لإدارة بايدن.
جاء سوليفان إلى المنطقة عقب شكوى وزير الخارجية أنتوني بلينكن للرئيس بايدن من أنّه، أي الوزير، وصل إلى نقطة صعبة في الحوار المتعنّت مع حكومة نتانياهو، وأنّه في الوقت ذاته سمع كلاماً قاسياً من الوفد الوزاري العربي الإسلامي.
أضاف بلينكن أنّ مصالح الولايات المتحدة مع حلفائها في المنطقة تمرّ بمرحلة حرجة للغاية بسبب الإحباط الشديد الذي يعاني منه هؤلاء الحلفاء بسبب الدعم غير المشروط لإسرائيل مع تجاهل واشنطن القيام بأيّ ضغوط لإيقاف العمليات العسكرية الوحشية ضدّ المدنيين.
ساندت هذه الرؤية عدّة تقارير من سفراء واشنطن في عدّة عواصم، وتقارير من إدارات الشرق الأوسط في الاستخبارات الأميركية تنذر بالغضب الشعبي في العالمين العربي والإسلامي، وحجم الإحراج السياسي الذي سبّبه ذلك لكثير من حكّام المنطقة الذين يواجهون ضغطاً شعبياً لاتّخاذ قرارات قاسية ضدّ العلاقات مع إسرائيل وإظهار الغضب الرسمي على الدعم الأميركي لإسرائيل.
وصل تقدير الموقف الأميركي، بناء على كلّ ما سبق، إلى ضرورة محاولة تليين الموقف الأميركي وتجنّب الوصول إلى سطوع الخلاف مع السلوك الإسرائيلي على أنّه صراع قد يصل إلى المواجهة.
كانت نصيحة بلينكن لرئيسه أنّ هناك سلوكين يجب تجنّبهما في الوقت ذاته:
– الأوّل: وصول اختلاف الرؤى بين واشنطن وتل أبيب إلى الظهور على أنّه صراع يستوجب الضغط الأميركي على إسرائيل التي تحارب من أجل الدفاع عن مصالح وأمن الدولة العبرية، وبالتالي يجب أن لا يتمّ تفسير أيّ سلوك أميركي حالي أو مقبل على أنّه تخلٍّ عن الدعم غير المشروط لإسرائيل.
– الثاني: لا بدّ من إيجاد صيغة تخفّف من الغضب والإحباط اللذين يمكن أن يؤثّرا على العلاقات التاريخية لدول المنطقة رسمياً أو شعبياً.
من هنا لا بدّ أن تبدو إدارة بايدن أنّها تسعى إلى إنقاذ الموقف من خلال وقف إطلاق النار، تبادل الرهائن، توفير مساعدات إنسانية، وإيجاد مسار سياسي وأمنيّ مقبول للملفّ الفلسطيني.
كان بايدن يخشى أن يخسر الصوت اليهودي إذا قصّر في الدعم غير المشروط لإسرائيل، ويبدو أنّ الرجل سيدفع ثمن هذا الدعم من رئاسته وسمعة واشنطن السياسية
بايدن قلق على الانتخابات
ربّما أخطر ما قُدّم لبايدن من تحذيرات هو التأكيد على عبارة مزدوجة تقول إنّ “استمرار الدعم غير المشروط، وإيقافه أو تخفيفه لإرضاء الحلفاء، ستكون له في الحالتين تأثيرات سلبية على معركة الرئيس الانتخابية”.
جاء في هذه التصوّرات أنّ “كلمة الرئيس المقبلة إلى مجلسَيْ الشيوخ والنواب (خطاب الاتحاد) في بدايات العام المقبل يجب أن تحتوي على نجاح للدور الأميركي في دعم الشعب الإسرائيلي وجهوده في إنقاذ الموقف المتدهور في غزة”.
من هنا كان مهمّاً للرئيس الذي يواجه صعوبات في 6 ولايات رئيسية أن يحصل على دعم أساسي في ميتشيغان التي يلعب فيها حجم الصوت العربي والإسلامي دوراً أساسيّاً.
تدلّ المؤشّرات على أنّ الصوت العربي الإسلامي في ميتشيغان لن يكون بطبيعة الحال مع إدارة بايدن.
تُعرف ميتشيغان بأنّها ديمقراطية الهوى بشكل تقليدي تاريخي بسبب قوّة نقابات العمّال التي تدافع عن مصالح العمالة في تلك المنطقة الصناعية المؤثّرة.
بناء لذلك كان تكليف جيك سوليفان بالسفر على وجه السرعة لأداء مهمّة صعبة تسعى إلى:
1- الاتفاق على جدول زمني قريب لا يتجاوز شهر كانون الثاني المقبل لوقف إطلاق النار.
2- الاستجابة لشكوى الطلب العربي الإسلامي بزيادة حجم وتدفّق المساعدات الإنسانية والوقود والأدوية لغزّة.
3- تركيز قوّة النيران الإسرائيلية على قوات حماس وقيادتها والابتعاد قدر الإمكان عن أيّ أهداف مدنية، سواء بشكل متعمّد أو بنيران عشوائية.
4- عدم معاودة إطلاق النار على المدنيين الذين نزحوا أكثر من 3 مرّات من الشمال إلى الجنوب واستقرّوا الآن في مدينة رفح.
5- محاولة الوصول مع الإسرائيليين إلى خارطة مبدئية لحوار سياسي حول شكل مستقبل علاقة الفلسطينيين بإسرائيل.
المطلوب من سوليفان إنقاذ حكومة إسرائيل من نفسها، وإعادة تنظيم تكتيكات جيش الدفاع الإسرائيلي، للإسراع في حسم الأمور حتى لا يدفع ثمنها المرشّح الرئاسي جو بايدن
المطلوب إنقاذ نتانياهو
اقترحت الخارجية الأميركية على سوليفان استمرار محاولات التوصّل إلى هدنة جديدة تخفّف من وطأة ردود الفعل الشعبية والرسمية في العالم حتى كادت الصورة تصبح مضرّة للغاية بعد فيتو واشنطن في مجلس الأمن والتأييد الدولي في تصويت الجمعية العامة الأخير حتى بدت واشنطن وتل أبيب وحدهما بشكل سلبي.
باختصار المطلوب من سوليفان إنقاذ حكومة إسرائيل من نفسها، وإعادة تنظيم تكتيكات جيش الدفاع الإسرائيلي، للإسراع في حسم الأمور حتى لا يدفع ثمنها المرشّح الرئاسي جو بايدن.
من هنا كان الاقتراح الأميركي الخجول بضرورة قيام نتانياهو بإعادة تشكيل حكومته لأنّ الائتلاف الحالي المتشدّد يصعّب مهمّة أيّ تهدئة يمكن أن تؤدّي إلى تسوية.
وصل التقدير الأميركي إلى أنّه في حال استمرار هذا الائتلاف فإنّ خسارة إسرائيل للأهداف السياسية هي أمر مؤكّد، وأنّ احتمالات توسّع نطاق الحرب، سواء داخلياً من سكّان الضفة وسكّان الخطّ الأخضر أو خارجياً من خلال الحوثيين والحشد الشعبي والحزب، وهو أمر تسعى واشنطن بكلّ قوة إلى أن تتجنّبه، خاصة وهي تعاني من فشل القوات الأوكرانية في تحقيق أيّ تقدّم أمام الجيش الروسي.
باختصار لا تتحمّل إدارة بايدن دفع فاتورة فشلين في آن واحد، أحدهما في أوكرانيا والآخر في غزة!
فيمَ نجح سوليفان وفيمَ فشل في زيارته؟
1- نجح سوليفان في إقناع مجلس الوزراء بزيادة حجم المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح، وكانت أوّل دفعة جديدة 16 مقطورة من المساعدات السعودية التي جاءت عبر الدفعة السابقة للمساعدات عبر الجسر الجوّي والبحري.
2- نجح الرجل في إقناع رئاسة الأركان بعمليات نوعية ضدّ حماس بدلاً من الوقوع في كمين حرب المدن التي أدّت إلى خسارة کبرى قبل 4 أيام.
3- فشل الرجل في إيقاف الآتي:
أ- دعم تسليح المستوطنين.
ب- تغيير الائتلاف الحاكم.
ج- الالتزام بجدول زمني قريب لوقف إطلاق النار.
إقرأ أيضاً: غزّة فرصة لبوتين.. لكن؟
كانت صيغة الـCompromise الشرّيرة هي استبدال العمليات البرّية في أقرب وقت بنوع من العمليات النوعية للتصفية والاغتيالات ضدّ قيادة حماس على غرار ما يقوم به الجيش الإسرائيلي في بعض مدن الضفة.
إذاً لا مؤشّرات إلى تسوية أو وقف فوري بل استمرار السابق بشكل مختلف.
إذاً ضوء أخضر أميركي لاستمرار ما سبق لكن بشكل أقلّ وحشية ظاهرة.
الأمر المخيف أنّ نتانياهو يتعامل مع بايدن وكأنّ الأزمة هي أزمة بايدن وليست أزمة حكومته ومستقبله السياسي.
كان بايدن يخشى أن يخسر الصوت اليهودي إذا قصّر في الدعم غير المشروط لإسرائيل، ويبدو أنّ الرجل سيدفع ثمن هذا الدعم من رئاسته وسمعة واشنطن السياسية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Adeeb_Emad@