نانسي عجرم تودّع و”تشخبط” عالحيط: سنعود!

مدة القراءة 5 د


في كتابه “نانسي ليست كارل ماركس”، وفي “بورتريه” مخصّص لها، يقارن حازم صاغية بين احتكار نانسي عجرم وزميلاتها “التعبير عن العشق والغرام وكيفياتهما”، وبين قناة “الجزيرة” التي “تحتكر التعبير عن السياسة ومواقفها”. البورتريه مكتوب في فترة سابقة لنشر الكتاب (دار “الساقي”، طبعة اولى، 2010)، يوم كانت نانسي عجرم نجمة صاخبة في بداياتها مع أغنيات لاقت انتشاراً واسعاً بسبب قربها إلى المتلقّي، لحناً ومضموناً. وكانت أغانيها، كما يلاحظ صاغية، “تستهوي الصغار أيضاً، تُعينها في ذلك جملٌ قصيرة وألحان سهلة راقصة الإيقاع وأفلام متقنة”. وبالأفلام هنا، يقصد صاغية الفيديو كليبات التي اعتمدتها نانسي باباً لا يمكن للحن والكلام إلا أن يفضيا عبره إلى الناس. وكانت هذه “الأفلام المتقنة” من توقيع المخرجة نادين لبكي.

وينقل صاغية أنّ نانسي (على ذمّة إحدى المجلات الفنية) كانت “تعتمد على أطفال عائلتها لتعرف تفاعلهم مع الأغنيات التي تختارها. فإذا أعجبتهم تعتمدها، وإذا لم يتفاعلوا معها تصرف النظر عنها”.

عشر سنوات مرّت على نشر هذا البورتريه في كتاب صاغية الذي حمل على غلافه باللون الزهري صورة ملوّنة تضحك فيها نانسي ببراءة إلى جانب صورة بالاسود والأبيض لكارل ماركس متجهّماً.

في كتابه “نانسي ليست كارل ماركس”، وفي “بورتريه” مخصّص لها، يقارن حازم صاغية بين احتكار نانسي عجرم وزميلاتها “التعبير عن العشق والغرام وكيفياتهما”، وبين قناة “الجزيرة” التي “تحتكر التعبير عن السياسة ومواقفها”

عشر سنوات كانت كفيلة في خروج نانسي (مع زميلاتها طبعاً) من احتكار الطفولة والدلع والغرام إلى عالم أكثر فجاجة وأكثر قسوة تكفّلت أحوال البلاد المتقهقرة بخلقه وفرضه واقعاً لا مناص من التعامل معه. فنانسي التي كانت تغني لأطفال الناس، أنجبت أطفالاً (بنات)، وصارت تغني لهم، واضطرت إلى أن تشهد جريمة قتل في منزلها، ارتكبها زوجها بمسدسه دفاعاً عن الأطفال من سارق دخل بالسلاح إلى منزلهم. ونانسي التي لم ير فيها صاغية قبل عشر سنوات أكثر من مغنية عشق وغرام (يا سلام قد إيه حلو الغرام)، كبرت بعد عشر سنوات لتجد نفسها تغني أغنية ذات دلالات سياسية بعد تفجير المرفأ وما سبقه من انهيار على الصعد كافة، دفع بالأطفال الذين كانت تغني لهم نانسي، وصاروا شباباً إلى ترك البلاد والهجرة.

“إلى بيروت الأنثى” تغني نانسي اليوم، بعد أن صار العشق والغرام ترفاً في بلاد تشهد يومياً تراكماً للمآسي وانحداراً بلا مكابح نحو القعر. القصيدة التي اختارتها نانسي لأغنيتها، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تستهوي الأطفال، كحال غالبية أغانيها السابقة. الأغنية من كلمات نزار قباني، ولحّنها هشام بولس، واللحن يعطي انطباعاً (ربما لأن الكلام لقباني) بأنه يشبه ألحان كاظم الساهر.

لكن بمعزل عن هذه الملاحظة، لا يحيد هذا العمل فنياً عن الأسلوب الذي اعتمدته نانسي منذ نجاحاتها الأولى، عبر تقديم العمل بشكل متكامل، لا ينفصل فيه اللحن عن الكلام، ولا عن الفيديو كليب. ومن هنا، يبدو أنّ الكليب، الذي أخرجه سمير سرياني وكتب حوارات الممثّلين فيه بالاشتراك مع زوجته نادين شلهوب، يتكامل في إخراجه مع اللحن، أكثر من تكامل الكلام نفسه مع اللحن. بمعنى آخر، هذه الأغنية اختير كلامها وجرى تلحينه ليتلاءم مع فكرة الكليب. ومحاولة فصل الأغنية عن سياقها البصري والإخراجي، يجعل توزيعها الموسيقي غير منطقي مع استخدام إيقاع “المقسوم” على الطبلة لكلام تقول فيه نانسي “آه يا عشاق بيروت القدامى هل وجدتم بعد بيروت البديلا؟”، والقصيدة كلها حزينة، وكتبها قباني كاعتذار من “بيروت الأنثى” في العام 1981. وهذه الملاحظة، التي يمكن ببساطة التبيّن من دقّتها بمجرّد سماع الأغنية من دون مشاهدة الكليب (عبر الراديو مثلاً)، لا تُفسَّر إلا بأن المخرج طلب بعد سماع اللحن، إدخال “المقسوم” على الطبلة أثناء تناول العائلة اللبنانية “العشاء الأخير” قبل سفر ابنها مهاجراً.

الكليب، الذي أخرجه سمير سرياني وكتب حوارات الممثّلين فيه بالاشتراك مع زوجته نادين شلهوب، يتكامل في إخراجه مع اللحن، أكثر من تكامل الكلام نفسه مع اللحن

العمل بتكامله، كما معظم أعمال نانسي، قريب من القلب، ويلامس هذه المرة، مع الكليب، العائلة اللبنانية كلها، ويذهب بعيداً في تجسيد الفشل السياسي بلمسات إنسانية كافية لفضح ما فعلته هذه الطبقة من دون الإشارة المباشرة إلى جرائمها بحقّ اللبنانيين، ولا حتى إلى تفجير المرفأ. وهو ما اتفقت عليه نانسي مع مخرج العمل، الذي يقول في مقابلة مع صحيفة “الشرق الأوسط”: “عندما أسمعتني نانسي الأغنية كنا متفقين على أن نقدّم عملاً لا يحتوي على ما يذكّرنا بانفجار بيروت. فالناس التي عاشت تلك اللحظات لا تزال تعاني حتى اليوم من تداعياته السلبية عليها، ولم نكن نرغب بمضاعفة أحزانهم أو تذكيرهم بها”. لكن يصعب على من يشاهد الكليب وينسجم مع قصته الشبيهة بقصص عائلات لبنانية كثيرة تخسر أبناءها، تهجيراً أو قتلاً، إلا أن تنزل دموعه، مع دموع الأم المحبوسة في الكليب والتي تبقى وحيدة في المشهد الأخير، مرمية بثقلها على الكنبة لا تقوى على الحراك من شدة حزنها على فراق ابنها.

إقرأ أيضاً: رياض الريّس: رحل “آخر الخوارج”.. سمكة متحجّرة

نانسي ليست كارل ماركس. وربما على الغالب لم تقرأ له شيئاً من مؤلفاته أو نظرياته الاقتصادية. لكنها قدّمت ما يشبه التلخيص المبسّط والواقعي للأزمة الاقتصادية اللبنانية عبر هذا الكليب، الذي يمكن، مع قليل من المجازفة، القول إنه بمثابة “تشييع” وداعية للطبقة الوسطى.

 

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…